قبل كل شيء نريد أن نبين الأسباب الموجبة لفكرة تحويل النظام البرلماني في تركيا إلى النظام الرئاسي، حيث إنها لم تكن من بنات أفكار أردوغان، بل طالب بها أوزال الذي تولى رئاسة الجمهورية عام 1989 بعدما شغل رئاسة الوزراء منذ عام 1983.
فالفكرة أخرجتها أمريكا ليتبناها عملاؤها أوزال سابقا وأردوغان لاحقا ولم يتمكن السابق من تحقيقها، حتى إن عميلها دميريل امتدحها دون أن يعمل لها لتوافقه مع عملاء الإنجليز أثناء فترة رئاسته بين عامي 1993 و2000. فأمريكا تريد ذلك لتمرير القرارات دون الرجوع إلى البرلمان، لأن هناك قرارات مهمة يجب أن تتخذ لصالحها دون أن تصطدم بالبرلمان الذي يتأثر أحيانا بالرأي العام وبمعارضة عملاء الإنجليز من حزب الشعب الجمهوري.
فمثلا، عام 2003 أرادت أمريكا جر تركيا وراءها في احتلالها الغاشم للعراق، فاصطدمت بالبرلمان الذي لم يوافق على ذلك، علما أن رئيس الوزراء آنذاك أردوغان وافق على انجرار تركيا وراء أمريكا في احتلالها للعراق. ولهذا فإن أمريكا تقف وراء تحويل النظام في تركيا إلى النظام الرئاسي وإن لم تصرح علنا، بسبب أن عملاءها هم الذين ينادون به وهي تقف وراءهم ولم تنتقدهم أو تعترض عليهم.
عدا ذلك فإن النظام البرلماني هو نظام إنجليزي أتى به عميلهم مصطفى كمال، وكان تحت رحمة الجيش يتدخل كلما عجز البرلمان عن اتخاذ القرارات كما حصل عام 1980 لشدة الصراعات بين الأحزاب ولكون كل حزب يريد أن يبرز نفسه أمام جماهيره ليكسب أصواتا إضافية، والأحزاب الصغيرة التي كانت تعتبر مفتاحا تبتز الأحزاب الكبيرة التي تحتاج إليها للحصول على الأكثرية. وكان يحصل في الأغلب أن ينتخب رئيس الجمهورية من المؤسسة العسكرية أو بتأثيرها، وكانت هذه المؤسسة يسيطر عليها عملاء الإنجليز.
وقد أُتي برئيس الوزراء الحالي بن علي يلدرم كشخص متوافق مع أردوغان في هذا الموضوع، وأبعد داود أوغلو الذي كان يتردد فيه، لأنه يسلبه الصلاحيات، فلم يكن متحمسا له كثيرا وإن لم يعمل على عرقلته أو الوقوف في وجهه. فأصبحت مهمة رئيس الوزراء الحالي هي تحقيق هذا الأمر، فقال يوم 2/6/2016 (الأناضول): "سننجز الدستور الجديد، ونغير نظام الحكم إلى نظام رئاسي... أيا كان ما ينص عليه الدستور التركي، فإن رئيس الجمهورية تقع على عاتقه فعليا مسؤوليات سياسية، والدستور الحالي دستور انقلابي، سنّه انقلابيون عسكريون عام 1982" واعتبر ذلك مهما "لإحداث انسجام بين الوضع الحالي والدستور"، في إشارة إلى أن الرئيس أردوغان يمارس كافة الصلاحيات حاليا دون أن ينسجم ذلك مع الدستور. وطالب الأحزاب السياسية الأخرى بأن يكون لها "إسهام في الدستور الجديد... فإن لم يتم إقراره في البرلمان سيتم اللجوء للشعب بالاستفتاء مباشرة".
فهناك إصرار من قبل أردوغان وتأييد قوي من حزبه على إقامة النظام الرئاسي، وعمل دؤوب من قبلهما، إما أن يتحقق ذلك بالبرلمان أو بالاستفتاء الشعبي، سيعمل على تحقيقه بأي شكل من الأشكال، ومن الصعوبة بمكان أن ينال أصوات حزب الشعب المعارض الذي قال رئيسه كمال كلتشدار أوغلو يوم 3/6/2016 "إن حزب العدالة والتنمية يحاول إنقاذ رئيس الجمهورية مما اقترفه من فساد عبر اقتراح تطبيق النظام الرئاسي في البلاد".وأضاف "أعود وأكرر ما قلته من قبل،لن نسمح لهم بتطبيق هذا النظام ولو كان ثمن ذلك إراقة دمائنا". وقدم تقريرا من 119 صفحة يستعرض النظامين الرئاسي والبرلماني تاريخيا وواقعيا، ويدافع عن الأخير بأنه لم يكن سببا لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي كما يدّعي أردوغان. وإذا تحول النظام إلى رئاسي فإنه لن يتمكن حزب الشعب من عرقلة استصدار القرارات المهمة حيث ستكون الصلاحية الكاملة بيد رئيس الجمهورية، ولن تعرض على البرلمان ابتداء. ومن ثم إذا اعترض بعد اتخاذها من قبل الرئيس سيلجأ إلى المحاكم التي أصبحت بيد حكومة أردوغان فتدور معارضته في أروقتها وتقع في دوامتها، وعندئذ سيضعف دور الإنجليز أكثر وأكثر.
لقد تمكّن أردوغان من استصدار قانون مؤقتا يرفع الحصانة عن نواب في البرلمان ليحاكموا بقضايا اتهموا بها ليكون ذلك أداة بيده لضرب المعارضة، حيث ستطال برلمانيين في حزب الشعب وآخرين في حزب الشعوب الديمقراطي حيث هناك حوالي 147 عضوا سيطالهم الأمر وتفتح ملفاتهم وخاصة أعضاء حزب الشعوب الديمقراطي ورئيسه دميرطاش. وإذا تمكن من إسقاطهم أو إسقاط قسم مهم منهم من عضوية البرلمان، فإن ذلك سيسهل الحصول على تأييد حزب الحركة القومية الذي يقود حملة ضد الحزبين وخاصة ضد الأخير الذي يؤيد حزب العمال الكردستاني الانفصالي. وإلا سيكون هناك احتمال الدعوة إلى انتخابات مبكرة قسما مهما من عضوية البرلمان، ويأمل حزب العدالة والتنمية أن يعود بأغلبية أكبر من الحالية حتى يتمكن من إحداث التغيير الدستوري وإقامة النظام الرئاسي.
إن حزب الحركة القومية يرأسه دولت بهتشلي عميل أمريكا، ويقوم بدور المعارضة حتى يتميز عن حزب أردوغان العدالة والتنمية ويبقى حزبا قائما يجمع أصحاب الفكر القومي الذي يعتبر متطرفا، لأن قومية حزب أردوغان تعتبر معتدلة وأولئك لا يقبلون بها، فلا بد من وجود هذا الحزب ليجمع قطاعات أصحاب التفكير القومي المتعصب. ولذلك لا يستطيع بهتشلي أن يظهر توافقه مع أردوغان وحزبه دائما، ولكن عندما تصبح المسألة حيوية أو مهمة لأمريكا نرى بهتشلي يجر حزبه في النهاية نحو اتخاذ قرار موافق وداعم لحزب أردوغان كما حصل في انتخابات رئيس الجمهورية عام 2007 وكذلك في الإصلاحات الديمقراطية عام 2009، وفي عدة مواقف أخرى، وهو الذي أسقط حكومة أجاويد عميل الإنجليز عام 2002 ليمهد الطريق أمام صعود حزب أردوغان.
ونرى أن حكومة حزب العدالة والتنمية تقوم بحماية بهتشلي من المعارضة في حزبه والتي تطالب بانتخابات جديدة لرئاسة الحزب في محاولة لإسقاطه، وذلك بمنع هذه المعارضة بقوة الشرطة من عقد مؤتمر عام للحزب متعلقا بهذا الخصوص، وكذلك عن طريق المحاكم المحلية التي لم تأذن بعقد المؤتمر، حيث قامت المعارضة في هذا الحزب برفع دعوى إلى المحاكم على رئيس الحزب الذي رفض عقد المؤتمر وإجراء هذه الانتخابات وأصر على إجرائها كما هو مقرر عام 2018.
ومن هنا يظهر أن هناك احتمالا بأن يتمكّن أردوغان من تحويل النظام إلى رئاسي، فإنه يعمل على إضعاف المعارضة بإسقاط أعضاء منها بقانون رفع الحصانة عن الأعضاء الذين اتهموا بأعمال فساد أو بأعمال ضد الدولة كدعم الانفصاليين، وكذلك يعمل على كسب حزب الحركة القومية بجانبه، حيث ينفذ أردوغان ما ينادي به هذا الحزب، ولذلك لا يستبعد أن يؤيد هذا الحزب إجراء استفتاء على هذا التغيير الدستوري كما حصل في المرات السابقة بتأييده أردوغان في آخر لحظة، حيث يحتاج حزب أردوغان إلى 330 صوتا في البرلمان حتى يتمكن من إجراء هذا الاستفتاء، فحزبه يملك 317 مقعدا فيحتاج لأصوات من حزب الحركة القومية الذي يملك 40 مقعدا. ولتغيير الدستور عبر البرلمان يحتاج إلى 367، وذلك لن يتحقق له، فلم يبق له سوى الاستفتاء الشعبي أو اللجوء إلى انتخابات مبكرة ليحصل على أكثرية كبيرة ومن ثم يجري استفتاء شعبيا بناء على تلك الأكثرية.
وهكذا يسعى أردوغان للحصول على الأكثرية ليحقق هدفه بأن يصبح صاحب الصلاحيات الواسعة لينفذ لأمريكا بكل أريحية القرارات والسياسات التي تصب في مصلحتها في الداخل كالمسألة الكردية، وفي المنطقة مثل مشاريعها المتعلقة بسوريا والعراق وغيرهما التي تستهدف منع تحرر الأمة من ربقة الاستعمار والعودة إلى حكم الإسلام. وأردوغان يصر على تطبيق النظام الجمهوري العلماني الديمقراطي كما أكد في مناسبات عديدة وكما يؤكد ذلك في تطبيقه لهذا النظام وحرصه عليه مدة 14 عاما، وقد رفض اقتراح رئيس البرلمان بإقامة نظام يستند إلى الدين وأصر على النظام العلماني. ولذلك فإنه لا يوجد فرق بالنسبة لنا سواء أكان نظاما رئاسيا كنظام السيسي في مصر أو نظاما برلمانيا كما هو حاليا في تركيا منذ 92 عاما، والنظام الصحيح الأمثل لأهل تركيا ولكافة المسلمين هو نظام الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الذي يستند إلى العقيدة الإسلامية، وتشريعاته مستنبطة من الكتاب والسنة، ويحرم موالاة أمريكا أو غيرها من دول الغرب الاستعماري.
رأيك في الموضوع