إن الشعب الليبي لم يترك وحده ليقرر مصيره منذ أن ثار على الطاغية القذافي، حيث تدخلت الدول الغربية بذريعة مساعدته لمنع تحرره من قبضتها ومنعه من إقامة نظامه الذي يريد، وهو النظام الذي يستند إلى دينه الإسلام. فلم يستطع الشعب أن يفرض سلطانه ويقيم دولته أو يشكل حكومته من تلقاء نفسه، فأصبح التدخل الدولي واضحا والصراع بين هذه الدول مكشوفا، ولم تعد تخفى اللعبة على أحد. وبجانب ذلك فإن هذه الدول وجدت أطرافا محلية تستغلها وعملاء ينفذون خططها ليكونوا أدوات هذا الصراع، ولهذا السبب لم تستقر أية حكومة خلال الخمس سنوات الماضية، بل تأسست أكثر من حكومة في الوقت نفسه تتبع أطرافا دولية؛ حكومة طبرق تحت سيطرة حفتر عميل أمريكا الذي عين قائدا للجيش، وحكومة طرابلس تحت سيطرة عملاء الإنجليز.
وبموجب اتفاق الصخيرات يوم 17/12/2015 تلغى الحكومات السابقة وتؤسس حكومة جديدة برئاسة السراج. وبما أن الإنجليز هم الذين طبخوا الاتفاق وعينوا السراج، استطاعوا أن ينقلوا حكومته إلى طرابلس ويجعلوا الحكومة السابقة هناك تلغي نفسها وتسلمه مقاليد الحكم. ولكن حكومة طبرق لم تلغ نفسها حيث تم عرقلة تصويت برلمان طبرق عليها من قبل عصابات حفتر، فمعنى ذلك أن الجيش الذي يسيطر عليه حفتر لن يكون جيشها، وحفتر في حكم الساقط بسبب أن المادة الثامنة من هذا الاتفاق تنص على اعتبار كل المناصب العسكرية والأمنية شاغرة بمجرد بدء الحكومة عملها. وحفتر يرفض الاستسلام ويدّعي أنه يحارب الإرهاب، ويقوم بالتقدم نحو سرت لطرد تنظيم الدولة منها. ولهذا أعلن المجلس الرئاسي لحكومة السراج يوم 10/5/2016 "إنشاء قوة عسكرية جديدة تحت مسمى "الحرس الرئاسي" تتخذ من العاصمة طرابلس مقرا لها. ويحدد القرار الصادر عن المجلس الرئاسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة؛ مجالات اختصاص وتبعية قوات الحرس الرئاسي ومعايير الانتساب لها. وينص قرار إنشاء القوة العسكرية الذي نشره المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي؛ على أن مهام هذه القوة العسكرية تتمثل في "تأمين المنشآت والمقار الحكومية وأعضاء الحكومة والوفود الأجنبية، بالإضافة إلى حراسة الأهداف الحيوية في البلاد كالمنافذ البرية والبحرية والجوية وخطوط نقل النفط وشبكات المياه".
ويظهر من خلال القرار أن حكومة السراج تتوجه لقطع الطريق أمام جيش خليفة حفتر عميل أمريكا والذي بدأ الزحف نحو المنطقة الأهم استراتيجيا في ليبيا وهي منطقة الهلال النفطي. ففي حال تمكن الجيش التابع لحفتر من الاستيلاء على مدن الهلال النفطي من تنظيم الدولة، فإنه سيكسب ورقة ضغط قوية تضمن لحفتر مكانا أهم في مستقبل ليبيا. وما سيساعد حكومة السراج ويبرر تصرفها هذا؛ هو قيامها بإلغاء المليشيات ونزع سلاحها ودمج أفرادها لمن يرغب في الانتساب إلى الجيش حسب قرار المؤتمر الوطني رقم 53 لسنة 2013. فإذا تمكنت من ذلك فإنها سوف تقوي موقفها في إقامة جيش بديل لتعتبر جيش حفتر بحكم الملغي أو تحتويه.
وحتى يخفي السراج هدفه ويحتوي الآخرين ولا يظهر أنه يصطدم مع الجيش الذي يقوده حفتر أطلق على الجيش الذي قرر إنشاءه اسم حرس رئاسي، وكان قد صرح قبل خطوته هذه يوم 29/4/2016 قائلا: "إننا نتطلع إلى تنظيم الجهود بهدف خوض معركة الوطن للقضاء على داعش في سرت والمناطق المجاورة بمشاركة جميع الأطراف" وقال غامزاً بحفتر وهدفه: "إننا لن نسمح بأن تكون معركة تحرير سرت خاضعة للمساومات السياسية والمكاسب الآنية فقد آن الأوان لاجتثاث داعش". وأضافت الوكالة الفرنسية للأنباء التي نقلت التصريح: "لكن حكومته تخشى من أن يشن حفتر هجوما أحاديا ضد تنظيم الدولة مما يؤدي إلى وقوع اشتباكات بين جماعات مسلحة مختلفة وزج البلاد في حرب أهلية". فالأمر واضح هو أن حكومة السراج تريد أن تقطع الطريق أمام تقدم حفتر واتخاذه تنظيم الدولة واستعادة سرت من التنظيم ذريعة للسيطرة على سرت وغيرها. والتنظيم يسعى للتمدد نحو منطقة الهلال النفطي (منطقة خليج السدرة) وتضم عدة مدن بين بنغازي وسرت وتتوسط المسافة بين بنغازي وطرابلس وتحوي المخزون الأكبر من النفط، بالإضافة إلى مرافئ السدرة ورأس لانوف والبريقة الأكبر في ليبيا.
والأوروبيون يدعمون حكومة السراج في تأسيسه قوات عسكرية، فقد أعلنت فيديريكا موغيريني ممثلة الشؤون الأمنية والخارجية في الاتحاد الأوروبي يوم 14/5/2016 "أن طواقم البحرية المشاركة في عملية صوفيا الأوروبية ستشرع في تدريب خفر السواحل والقوات البحرية الليبية وتعزيز المعلومات بناء على طلب من السلطات الشرعية الليبية وستمدد مهمة صوفيا عاما آخر".
وأما الأمريكان فكأن ذلك لا يعنيهم ويجعلون المسألة الكبرى هي محاربة تنظيم الدولة، ويسعون إلى تركيز نفوذهم في ليبيا مباشرة وليس فقط بالاعتماد على عميلهم حفتر، ففد نقلت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية يوم 13/5/2016 عن مسؤولين أمريكيين أن "قوات أمريكية للعمليات الخاصة يبلغ عددها 25 جنديا تتمركز في ليبيا منذ آواخر العام الماضي حول مدينتي مصراته وبنغازي سعيا إلى استمالة حلفاء محتملين وجمع معلومات مخابراتية بشأن التهديدات المحتملة". وقالت الصحيفة: "تنظيم الدولة الإسلامية يزداد صعودا في ليبيا على نحو جعله يتطلع الآن لبسط سيطرته على تونس" وأضافت أن: "هشاشة هذه الدول الأفريقية وهي تكافح لاحتواء التداعيات السامة لانتفاضات الربيع العربي قبل خمس سنوات..". أي أن هذه الدول غير قادرة على محاربة التنظيم فلا بد من التدخل الأمريكي! وقال نائب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم 14/5/2016 "إن الولايات المتحدة قلقة من تقارير تشير إلى أن جماعة بوكو حرام النيجيرية ترسل مقاتلين للانضمام إلى صفوف الدولة في ليبيا". فهذا مبرر لأمريكا تختلقه لتزيد من تدخلها في ليبيا بصورة مباشرة، وأسلوب آخر لعرقلة دور حكومة السراج وإفشال حرسها الرئاسي.
والخلاصة أن أمريكا لن تتخلى بسهولة عن موقفها الداعم لعميلها حفتر والجيش الذي يقوده حتى تفرضه وتفرض عملاءها على حكومة السراج أو تجعل الحكومة تحت سيطرتها، وهي تتذرع بمحاربة تنظيم الدولة والإرهاب وأصبحت تتدخل بصورة مباشرة، وأوروبا وهي صاحبة النفوذ العريق في البلد ولديها سيطرة على الوسط السياسي وقواتها أصبحت على الأرض الليبية تحارب مباشرة وحكومة السراج تابعة لها، ولهذا فلن تتوقف عن خطواتها الرامية بدعم جيش هذه الحكومة. ويظهر أنه سيكون هناك جيشان كما هناك حكومتان وبرلمانان. ويبقى الصراع سجالا بينهما إلى حين يسيطر طرف استعماري منهما أو يتوافقا مؤقتا. والضحية هم أهل ليبيا المسلمون وبلادهم الغنية بالنفط الذي يتصارع عليه المستعمرون الجشعون، وهم ينتظرون المخلصين الواعين من أبناء الأمة ليخلصوهم من هذه الكارثة الكبرى التي حلت بهم، ولن يحصل ذلك بالعمل في ليبيا وحدها، بل يجب أن يكون شاملا يشمل البلاد المحيطة بها وغيرها حتى يتمكن المخلصون من تحرير ليبيا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع