انعقدت يومي الخميس 31/3/2016 والجمعة 1/4/2016 في العاصمة الأمريكية واشنطن ما يُسمّى بـ"قمة الأمن النووي" وشارك فيها زعماء أكثر من خمسين دولة، بالإضافة إلى ممثلين عن منظمات الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمة الشرطة الجنائية الدولية "إنتربول" والاتحاد الأوروبي، وبحثوا فيها ملفات نووية عديدة، كملف ما يُسمّى بالإرهاب النووي ومنع حصول ما أسموها بالجماعات المتطرفة على السلاح النووي، وركزت القمّة في لقاءاتها الموسعة، والخاصة، على خطر الإرهاب النووي، وتضمّن البيان الختامي إجراءات تمنع استغلال المواد النووية، وتُحصّن أمنها، لتجنب وقوعها في يد (الإرهابيين) على حد تعبيرهم، خصوصاً بعد التفجيرات الأخيرة في بلجيكا، بالاضافة إلى ما اعتبروه (التحدي المتزايد) الذي تمثله كوريا الشمالية.
وقد ظهر في القمّة طغيان الإرادة الأمريكية على جميع الحاضرين، فهي التي تُحدّد جدول أعمال المؤتمر، وهي التي تُحدّد الموضوعات التي ستبحث فيه، وهي التي تصوغ بيانه الختامي، وهي التي تتحكّم بالحضور فتمنع إيران من المشاركة، وتتسبّب في تغيّب روسيا عنها.
وقد التزم المشاركون في البيان الختامي بكل ما كان الرئيس الأمريكي قد أعلن عنه قبل القمّة، مثل زيادة إجراءات حماية المواد المشعة، والتقيد بالاتفاقات الدولية في هذا الشأن، مع زيادة التنسيق الإقليمي والدولي في هذه الإجراءات، وتحدّث الرئيس الأمريكي باراك أوباما في كلمته عن الحد من الانتشار النووي متفاخراً بأنّه "لم ينجح أي تنظيم إرهابي حتى الآن في امتلاك سلاح نووي"، وأشار إلى أن "الجهود ستركز على ضمان بذل كل ما هو ممكن لمنع هذه التنظيمات من الحصول على هذه الأسلحة الفتاكة"، وطالب بتوحيد جهود العالم لمحاربة تنظيم الدولة فقال: "إن قمّة الأمن النووي كانت فرصة في أن تظل دول العالم موحدة مع تركيز جهودها على محاربة تنظيم داعش في هذه المرحلة".
وادّعى أنّ "غالبية الدول المشاركة في قمة الأمن النووي هي جزء من التحالف الدولي لمحاربة داعش"، وزعم بأنّ "الضغوط التي يواجهها تنظيم داعش في سوريا والعراق تجعلنا نتوقع أن يقوم بهجمات في مناطق أخرى، كما حدث من هجمات ابتداءً من تركيا إلى بروكسل وهو ما يدعو إلى أهمية القضاء على تنظيم داعش بصورة ملحة".
وطالب من الجميع أنْ يلعبوا دوراً استخبارياً في محاربة التنظيم، منوّها إلى أن الولايات المتحدة ستبذل مزيدا من الجهود في "مجال تبادل المعلومات الاستخبارية".
وتحدّث أوباما كذلك عن خطورة وجود المواد النووية في العالم وضرورة تأمينها فقال: "لا يزال هناك قدر كبير من المواد النووية والمشعة في جميع أنحاء العالم والتي تحتاج إلى التأمين. المخزون العالمي من البلوتونيوم في نمو متزايد، الترسانات النووية تتوسع في بعض البلدان، وقد تكون هناك أسلحة نووية تكتيكية صغيرة عرضة للسرقة".
وأوضح بأنّ بلاده ستقوم بدورها في حماية المواد النووية حتى تقوم الدول الأخرى بتحسين إجراءات الأمن والشفافية لديها، ودعا بكل صراحة إلى التعاون الاستخباري مع تلك الدول بخصوص تلك الإجراءات فقال: "اليوم، أدعو جميع الدول الممثلة في القمة للانضمام إلى مناقشة أوسع بين أجهزة الاستخبارات والأمن لدراسة كيف يمكننا تحسين تبادل المعلومات بين الدول فيما بينها لمنع كل أنواع الهجمات الإرهابية، وخصوصا تلك التي قد تشمل أسلحة الدمار الشامل".
واستجاب زعماء الدول المشاركة في المؤتمر لكل طلباته، ففي البيان الختامي للقمّة جاء التزامهم سريعاً بمنع وصول الأسلحة النووية إلى أيدي (الإرهابيين).
وكانت القمّة قد ركّزت في يومها الأول الخميس على تصرفّات كوريا الشمالية (الاستفزازية) وتحدّيها للمجتمع الدولي، وعلى ضرورة تقديمها لـ(المجتمع الدولي) لائحة بالمواد النووية التي بحوزتها، وفي يومها الثاني ركّزت على فرضية سيناريو اعتداء إرهابي نووي يقوم به " تنظيم الدولة الإسلامية"، وفقاً للتخيّل الأمريكي.
وظلّ تصوير خطر وقوع اعتداء بواسطة ما يُسمّى بـ"القنبلة القذرة" ماثلا في أذهان جميع الحاضرين، حيث تمّ تخويفهم وإيهامهم بالخشية من إمكانية أن ينجح جهاديون في حيازة مواد نووية يستخدمونها لتنفيذ تفجير غير نووي بواسطة قنبلة تبث جسيمات مشعة.
وما عزَز تلك المخاوف لديهم "الإعلان عن العثور على حوالي عشر ساعات من المراقبة عبر الفيديو لمسؤول نووي بلجيكي في حوزة عناصر من تنظيم الدولة الإسلامية".
وتمّ كذلك قبل القمّة الترويج لدراسات دولية تقول بأنه "توجد في العالم كمية كافية من البلوتونيوم واليورانيوم المخصب لصنع ما يوازي مئتي ألف قنبلة نووية مثل قنبلة هيروشيما".
وتُعتبر قمّة الأمن النووي مبادرة أمريكية محضة أطلقها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ولايته الأولى في العام 2010، حيث عقدت أول قمة بشأن الأمن النووي في واشنطن، ثم تبعتها قمتان في العاصمة الكورية الجنوبية سيؤول في 2012 وفي لاهاي بهولندا عام 2014، وعادت القمّة الرابعة هذا العام لتعقد مرة أخرى في الولايات المتحدة.
وشاركت في القمة الأولى حوالي 47 دولة و3 منظمات دولية، وفي القمة الثانية ارتفع العدد إلى 53 دولة و4 منظمات دولية، وقد ركّزت القمّة الأولى على السياسات العامة، وركّزت القمّة الثانية على متابعة تنفيذ القمّة الأولى، وأمّا القمة الثالثة فانعقدت في لاهاي عام 2014 وركّزت على النتائج التي تحققت من الثانية، واستشرفت ما ستؤول إليه القمّة الرابعة في المستقبل.
ومنذ قمتها الأولى تخلصت أربع عشرة دولة من مخزوناتها من المواد الانشطارية، في حين سرَّعت دول أخرى جهودها للتخلص منها، كما وأرسلت اليابان على - سبيل المثال - إلى الولايات المتحدة كمية من البلوتونيوم تسمح بصنع نحو خمسين قنبلة.
ومثل هذه القمم بات يتمخّض عنها تخلي دول عن احتياطاتها من اليورانيوم المخصّب مثل كندا التي تخلّت عن جزء كبير من احتياطاتها من اليورانيوم عالي التخصيب، وتشيلي التي أعلنت عن تخليها كليا عن احتياطاتها، وكذلك فعلت أوكرانيا والمكسيك، فيما أعلنت الأرجنتين وباكستان عن خطوات مدروسة سيجري اتخاذها من أجل تفادي سرقة المواد النووية، كما أن عددا من البلدان من ضمنها إيطاليا واليابان والهند والصين ستقيم مراكز جديدة خاصة بضمان الأمن النووي ووضع التكنولوجيات الآمنة وإعداد الكوادر للعمل في هذا المجال.
وفي نهاية مداولات القمّة أكّد القادة المشاركون فيها على التزامهم بمنع وصول الأسلحة النووية إلى أيدي (المتطرفين)، وحذّروا من أن التهديد "في تطور مستمر"، على حدّ تعبيرهم.
وفي البيان المشترك للقمّة جاء ما نصّه: "لا يزال هناك مزيد من العمل يتعين القيام به لمنع الجهات الفاعلة غير الحكومية من الحصول على النووي وغيره من المواد المشعة الأخرى، التي يمكن استخدامها لأغراض خبيثة".
واتفق القادة المشاركون على تجديد الالتزام بما وصفوه "بأهدافنا المشتركة لنزع السلاح النووي، وعدم الانتشار النووي، والاستخدام السلمي للطاقة النووية"، "وبتعزيز بيئة دولية سلمية ومستقرة عن طريق الحد من خطر الإرهاب النووي وتعزيز الأمن النووي".
ومن أبرز وقائع الدورة الحالية تفرّد أمريكا بإدارة جلساتها بسبب غياب ثاني أكبر دولة نووية في العالم، واستنكاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الحضور بذريعة عدم إشراك بلاده في التحضير لها، وعدم مشاورة الروس في جدول أعمال القمّة، وفقاً لمصدر في الكرملين الروسي، وعلّل الناطق الرئاسي دميتري بيسكوف للصحفيين عدم مشاركة بوتين في قمة واشنطن بقوله: "إنّ التحضير لهذه القمة افتقر إلى التعاون مع روسيا"، وقد تعطّلت بتخلّف روسيا عن حضور القمّة ما يُعرف بالمبادرة العالمية لمكافحة الإرهاب النووي GICNTالتي تترأسها الولايات المتحدة وروسيا بصورة مشتركة من 86 دولة، وردّت الإدارة الأمريكية بالقول: "إن روسيا عزلت نفسها وأضاعت فرصة باختيارها التخلف عن قمة للأمن النووي في واشنطن"، وحاولت أمريكا استمالة الصين ورفع مستواها في القمّة التي كان حضورها لافتاً، وقد نقلت وكالة (شينخوا) عن خبير نووي أمريكي قوله: "إن الصين لعبت دورا مهما في التعاون الدولي في الأمن النووي".
وهكذا نجد أنّ أمريكا التي ابتدعت هذا النوع من القمم، تُريد أنْ تستخدمها كسياسة للتحكّم بجميع النشاطات النووية في العالم، كما تُريد أن تفرض على جميع دول العالم أن يُرسلوا إليها المعلومات الاستخبارية عن الشبكات والشركات التي تتعامل بالمواد النووية، ويرسلوا لها أيضاً المخزونات النووية التي بحوزتهم، لتصبح بلدانهم في النهاية خالية تماماً من أية مواد نووية، بينما تبقى أمريكا هي الدولة الوحيدة التي تمتلك تلك المخزونات.
ولتمرير سياساتها هذه استبعدت روسيا من المشاورات التي كانت تسبق انعقاد القمة النووية كما كانت تفعل في القمم النووية الثلاث السابقة، وهو ما أدّى إلى احتجاج روسيا على استبعادها، واتخاذها قراراً بمقاطعة القمة الحالية.
إنّ هذه السياسة الأمريكية النووية الاستفزازيّة تستوجب ردّاً أعنف من مجرد الانسحاب والتغيّب كما فعلت روسيا، إنّها تستوجب مقاطعة شاملة وتامّة لأمريكا، وقطعاً تاماً للعلاقات معها، وليس مجرد التغيّب والحرَد، وإطلاق التصريحات الرنّانة.
وعندما يعزّنا الله سبحانه بدولة الإسلام، فلن يكون هناك مجال لأمريكا أنْ تسوق العالم بعصاها، ولن يبقى لها فرصة للاستفراد بما يُسمّى المجتمع الدولي، بل سيكون هناك علاقات دولية جديدة، أساسها الأعراف الدولية التي يُقرها الإسلام، وتتقبّلها الأحكام الشرعية، وعندها ستعترف أمريكا بحجمها الحقيقي، وبقوتها المنفوخة الموهومة، وستحل دولة الاسلام محلّها بكل جدارة واقتدار.
رأيك في الموضوع