انطلقت الجولة الجديدة من المفاوضات السورية يوم الاثنين في 14/03/2016، وضبط إيقاعها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، فحدّد أطرافها وإطارها وجدول أعمالها وسقفها، واعتبر إعلان جنيف بمثابة الكتاب المقدّس للمفاوضات حسب وصفه، وقال بأنّ المحادثات غير المباشرة ستبدأ في الموعد المضروب بمن يحضر أولاً من الوفود من دون أي تأخير، وأنّ يوم الاثنين هو اليوم الأهم في هذه المحادثات التي سيتم فيها طرح قضايا عديدة، وأنّ أهم ما سيتم طرحه ثلاث مسائل هي: تشكيل حكومة جديدة جامعة وشاملة، ووضع دستور جديد، وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية بإشراف الأمم المتحدة في غضون الأشهر الثمانية عشر المقبلة اعتباراً من تاريخ انطلاق المفاوضات في 14/03/2016.
ووافقت حكومة نظام بشار الأسد على الحضور، كما وافقت كذلك على الحضور المعارضة الرسمية المتمثلة بالهيئة العليا للمفاوضات، وتسابقت الوفود إلى جنيف، ونُشرت صورة لأسعد الزعبي رئيس الوفد المعارض مع محمد علوش الذي صُنّف بأنّه كبير المفاوضين، والذي هو المسؤول السياسي في تنظيم جيش الإسلام بعيد وصولهما إلى جنيف، استعداداً للمشاركة في المحادثات.
وكالعادة بدأ التراشق الكلامي بين الطرفين قبيل وبعد موعد انطلاق المفاوضات، فقال وليد المعلم وزير خارجية نظام بشّار في مؤتمر صحفي في دمشق عُقد عصر يوم السبت، "سنذهب إلى جنيف ولا نعرف مع من سنتحاور ووفدنا بعد 24 ساعة إن لم يجد أحدا سيعود ويتحمل الطرف الآخر مسؤولية الفشل"، ورفض المعلم شروط دي ميستورا التي أعلنها قبل انطلاق عملية التفاوض فقال: "إن المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا لا يحق له اقتراح جدول أعمال، هذا ما يجب أن يتم التوافق عليه بين المتحاورين لأن الحوار بالأساس سوري سوري وبقيادة سورية".
بينما قال أسعد الزعبي رئيس وفد الهيئة العليا للمفاوضات التي تمثل المعارضة السورية إنّ: "تشكيل هيئة الحكم الانتقالية كاملة الصلاحيات التنفيذية بما فيها صلاحيات رئيس الجمهورية هي أساس العملية التفاوضية"، وأضاف: "ما زال تطبيق البندين 12 و13 من قرار مجلس الأمن 2254 ناقصاً وعلى الأسد إطلاق سراح المعتقلين، إذا كان جاداً في الحديث عن المفاوضات"، وتابع: "على نظام الأسد وأبواقه الحديث عن مصير السوريين وإنقاذهم قبل الحديث عن مصير الأسد في سوريا"، وأمّا (كبير المفاوضين) محمد علوش فقال: "وصلنا قبل المؤتمر الصحفي لوليد المعلم، وكلماته تدل على عدم الجدية تجاه المفاوضات"، وقال: "حضرنا جنيف من أجل تشكيل هيئة انتقالية من دون وجود بشار الأسد في السلطة"، واستمر التراشق الإعلامي بين ممثلي الأطراف المتفاوضة، فعاد المعلّم وحذّر "من أن الحكومة لن تحاور أحداً يتحدث عن مقام الرئاسة... هذا خط أحمر وملك الشعب السوري وحده"، وردّ عليه منذر ماخوس المتحدث باسم الهيئة السورية المعارضة فقال: "أعتقد أنه يضع مسامير في نعش جنيف وهذا واضح... المعلم يوقف جنيف قبل أن يبدأ."
ولكن وبالرغم من اعتراض كلا وفدي النظام والمعارضة على تصريحات دي ميستورا، وبالرغم من هذا التراشق الإعلامي الحاد الذي ساد الأجواء التفاوضية، إلاّ أنّ دي ميستورا أكّد مرّة أخرى على المواقف نفسها التي أعلن عنها في البداية فقال: "إن الانتخابات الرئاسية والتشريعية سوف تجرى في سوريا وتحت إشراف من الأمم المتحدة في غضون 18 شهرا من الآن" وأشار إلى أنّ "موعد الانتخابات سيكون على طاولة المفاوضات المزمع إقامتها في جنيف الاثنين المقبل".
وأعاد توضيح وتأكيد حقيقة أنّ مفاوضات السلام المقررة في جنيف بين 14 و24 آذار/مارس ستتناول ثلاث مسائل وهي: تشكيل حكومة جديدة جامعة ودستور جديد وإجراء انتخابات في الأشهر الـ18 المقبلة اعتباراً من موعد بدء المفاوضات أي 14 آذار/مارس الجاري.
وأشار إلى أنّه "يأمل التوصل في المرحلة الأولى من المحادثات إلى تحقيق تقدم على الأقل في المسألة الأولى المتعلقة بتشكيل حكومة جديدة جامعة".
ولفت إلى أن هذه الجولة سيليها توقف لمدة أسبوع إلى 10 أيام، وإن (المحادثات) ستستأنف بعدها، وأوضح أن المحادثات ستحصل في قاعات منفصلة مع ممثلي النظام والمعارضة على حدة.
وكانت أمريكا بالتنسيق مع روسيا قد مهّدت لهذه الجولة من المفاوضات فقد حثّ وزير الخارجية الأمريكي جون كيري على المضي قدما في محادثات جنيف قائلا: "إن العنف قد تراجع بدرجة كبيرة منذ بدء سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية قبل أسبوعين"، وتحدث في نهاية زيارة له إلى السعودية فقال: "إن وقف اطلاق النار الأخير الذي بدأ منذ 27 شباط/فبراير، يبدو متماسكا، وإن مستوى أعمال العنف قد انخفض بنحو 90 في المائة"، وعالج شكاوى المعارضة السورية التي أكّدت وقوع انتهاكات لوقف إطلاق النار بقوله: "إن مسؤولين من الولايات المتحدة وروسيا سيجتمعون السبت في العاصمة الأردنية عمان وفي جنيف لدراسة تلك الشكاوى".
وهكذا نجد أنّ عملية التفاوض قد أُحْكِمت، ولم يعد مجال للمتفاوضين التهرّب من استحقاقاتها، وأنّ أمريكا قد جعلت من دي ميستورا وصيّاً عليها، وأنّها تسيّرها بطريقةٍ مرسومةٍ ومُخطّط لها جيّداً لتصل إلى أهدافها المحدّدة.
صحيح أنّه قد يحدث ما يؤخر مسارها، كالتراشق الكلامي بين أطرافها، وكَحَرَدِ بعض المدعوين إليها عن الحضور مثل هيثم منّاع رئيس هيئة التنسيق، فتتعثر في سيرها، وتتأخّر في بلوغ مراميها، إلاّ أنّ مجرد انطلاقها، ووضع أسس لها، وضبط سقفها الزمني، كل ذلك يكفي من وجهة نظر المخططين لها لضمان نجاحها، وتحقيق غاياتها.
لكنّ هذا النجاح - وعلى فرض أنّه تمّ - فهو لا يُعبّر عن إرادة أهل سوريا الذين ثاروا في الأصل وانتفضوا لإسقاط نظام الطاغية بشّار بكافة أركانه ورموزه وسلطاته، بينما تُسهِم هذه المفاوضات في تثبيت نظامه، وتزيين مظهره، وفي أحسن الأحوال قد تؤدي إلى مشاركة المعارضة معه في نظام الحكم الممقوت نفسه، وذلك بإضافة بعض التحسينات والترقيعات على دولته، وأجهزته الأمنية والعسكرية، فيُعاد إنتاج نظام مماثل لا يرقى إلى بلوغ أدنى تطلعات المتفاوضين أنفسهم، فضلاً عن غيرهم من الرافضين أساساً لمبدأ التفاوض.
وحتى لو انتهت هذه المفاوضات بخروج شخص الطاغية وبعض أعوانه، فإنّ قواعد النظام السابق ستبقى، وإنّ التبعية لأمريكا وأعداء الأمّة ستزداد، وبالتالي فإنّ الثورة سيتم إجهاضها بهذه المفاوضات المسمومة.
لكنّ الثوار الحقيقيين لن ينجرّوا إلى مستنقع التفاوض هذا، ولن ينخدعوا بوعود أمريكا الزائفة، ولا بالكتاب المقدس لـ دي ميستورا عرّاب أمريكا المأفون، ولن تتوقف الثورة، ولن يُلقيَ الثوار سلاحهم إلى أنْ يتمّ تحطيم أضلاع النظام، ودوسه، والقضاء عليه، وتدميره كلياً، وإقامة كيان إسلامي حقيقي فوق أنقاضه، ومن ثمّ تتلاشى جولات المتفاوضين المضنية والطويلة أدراج الرياح، وتُصبح أحلامهم الوردية، وأحلام أسيادهم الشيطانية هباءً منثوراً.
رأيك في الموضوع