الكلام في شرع الله وإعطاء الرأي في الأحكام الشرعية له شروطه ومقتضياته؛ من ذلك العلم بالقرآن والسنة ومصادر الأحكام، والعلم بأصول الفقه وقواعده وباللغة العربية وقواعدها، وبمناهج البحث الشرعي، وقبل ذلك وبعده ورعٌ يحجز صاحبه عن القول بغير علم أو ثقة، أو عن التحيز للهوى. فما بال رجال يتصدرون لهذا الأمر، وهم ليسوا من أهله أبداً، فترى الواحد منهم يتكلم في قضايا مصيرية، ويتدفق في كلامه باستخفاف واضح، وبغفلة ممجوجة ومثيرة عن أهم مقتضيات العلم بالشرع والقول فيه، فيسترسل في تبجحاته، مغتراً بنفسه، غير آبه بحجم أخطائه ومغالطاته، ويلقي الكلام على عواهنه غير مكترث بشيء، ولا بأن في الأمة من يهتم بأحوالها ويتصدى لما يُضلِّلُها؟!
لا يُستغرب في مثل الأوضاع السياسية الحالية لأمتنا، أن يتصدى لقضايا فقهية حيوية ومصيرية من لا دخل له بقواعد العربية فيرفع المنصوب وينصب المرفوع، ولا بالشريعة أو أدلتها، فينفي وجود نصوص أو ألفاظ موجودة في السنة تدل على وجوب الخلافة، أو يجادل في أحكام ودلالات محسومة فينفيها بتبجح وسفاهة، وفوق ذلك ينتقص من كبار علماء الأمة وينسبهم إلى قصر نظر أو انحياز سياسي أو مصلحي. أو تجده يتبجح بعلمٍ يزعم أنه عَلَمٌ فيه وغوّاصٌ إلى أسراره ودرره، وأن السابقين ومن سواه لم يعرفوه حق المعرفة، فقصروا في دَرْك مقاصد الشريعة مما استدرك هو وأدرك.
فإذا كان هؤلاء وأمثالهم روادَ علم وفتوى في الأمة، أو أصحابَ رأي ومشورة، فحريٌّ بالأمة أن تكون منحطة وأن تذهب تضحياتها سُدى، وأن تلفي نفسها غريبةً عن كتابها ونبيها وشريعتها.
إن نفراً غير قليل من هؤلاء استنفروا في السنوات الأخيرة معلنين - بكل وقاحة - الحرب على الخلافة والتوهينَ من شأنها وإنكار وجوبها كنظام حكم وهدف شرعي تستعيد به الأمة كيانها وفاعليتها وعزتها، وتطبق به الإسلام، وتنهض وتتخلص مما هي فيه من ظلم وذل وتخلف وتبعية. وأجهزة الإعلام التابعة لأنظمة العمالة والضلالة تبرز هذه الطروحات وتروج لها، في مقابل تجاهل بل تشويه الأفكار والأحكام الشرعية التي تدل على أهمية الخلافة كفريضة محسومة، وكنظام حكم فريد تضافرت عليه أدلة الإسلام من القرآن والسنة وإجماع الصحابة وقواعد الشريعة.
فبعد أن ذاقت الأمة صنوف الذل والفشل والمهانة، وبعد هدر الجهود والتضحيات في سبل الضلال والانحطاط، سقطت الأقنعة عن وجوه الغدر والخيانة من رواد طروحات الخداع والكذب، وأدركت الأمة الحل الصحيح بأنه الدولة الإسلامية، دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وارتقى الوعي الفكري فيها إلى أن كل حل آخر إنما هو طرح تضليلي، كما ارتقى الوعي السياسي على العملاء ومشاريعهم الغربية في إحكام الخناق على عنق الأمة وتضليلها بمشاريع تخديرية ومؤامرات شيطانية لا تؤدي إلا إلى استمرار مص دمائها وإذلالها وصرفها عن الإسلام. وشكّل هذا الوعي خطراً على الدول الكبرى المهيمنة على بلاد المسلمين، وعلى الأنظمة العميلة والدعيَّة على أمتنا، فاستنفروا بكل ما يستطيعون من قوى مادية وأمنية ومخابراتية ومن مؤامرات... ووجهوا علماء البلاط والسلاطين للتحذير من العمل لإسقاط حكام الضلال ومن خطر ذلك وأنه حرام، وللدعوة إلى طاعتهم. ولما كانت الخلافة هي المشروع العملي وبدأت تطل برأسها، وهي تقوم على أنقاضهم، وجد هؤلاء المزعومون علماء ومشايخ من ذوي المناصب ونجوم الفضائيات والإعلام العميل، وجدوا أنفسهم مضطرين لخوض صراع ضد الإسلام نفسه؛ ضد الخلافة التي لا يمكن إنكارها إلا بإنكار نصوص شرعية، وبإنكار أحكام شرعية، وبتجاهل قطعيات شرعية كوجوب طاعة الله سبحانه ورسوله، وإعلاء كلمته...
نعم، لقد استنفر الحكامُ المترنحون هؤلاء المتعالمين لمواجهة فكرة الخلافة والحكم بما أنزل الله، كما استنفروا أجهزتهم الأمنية والمخابراتية... وكما استنفرت أمريكا ومعها روسيا ودول العالم كله أيضاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً، لإجبار الأمة وشعوبها على التراجع عن فكرة الخلافة وتطبيق الشريعة. لذلك هم يتعاونون على قتل المسلمين بمئات الألوف، ويدمرون مدنهم ويهجرون الملايين...
إنها حرب عالميةٌ على الخلافة قبل مجيئها، لمجرد أنهم رأوها أطلت وتتقدم. ومن جنود هذه الحرب كُتَّابٌ ومشايخ وإعلامٌ وحركات وذوو مناصب دينية رسمية يقومون بدور مُخزٍ في خدمة الكفر ومواجهة الإسلام ومشروع الخلافة.
بهذا يتبين بوضوح دور هذا الصنف من هؤلاء المهوِّنين من شأن الخلافة المنكرين لوجوبها، والذين تارةً يقولون إنها حلم، وتارةً إنها خرافة، ويسخرون من العاملين لها.
لقد سبق أن تعرضتُ لهذا الصنف في مواضع كثيرة، ومن ذلك في هذه الجريدة المحترمة، فقد نشرت في العددين 20 و21 منها في 8 و15 نيسان 2015، رداً على الدكتور أحمد الريسوني الذي أنكر وجوب الخلافة، وتجاهل نصوصاً شرعية صحيحة، وخالف بدهيات شرعية، وناقض إجماع الصحابة واتفاق أئمة العلم والفقه في وجوب الخلافة، وذهب إلى مزاعم مستغربة نسبها إلى مقاصد الشريعة، وما هي إلا مقاصد الحكام، ومقاصد الشريعة بريئة منها ومن شطحاته.
والآن طلعت علينا صحيفة الشرق الأوسط في 18 كانون الثاني 2016 في عددها 13565 بمقال عنوانه "الخلافة الإسلامية.. استثمار أيديولوجي للنص الديني" للدكتور خالد يايموت. كرر فيه بعض افتراءات الريسوني. وفي 20 كانون الثاني 2016 نشر موقع هسبرس http://www.hespress.com/writers/291818.html مقالاً للدكتور خالص جلبي عنوانه: "تجربتي مع السلفيين وحزب التحرير والإخوان"، تهجم فيه على حزب التحرير وعلى الخلافة بأسلوب معيب ثم زعم أن الخلافة خرافة...
هذه الأمثلة تندرج فيما تبين أعلاه من حرب على الخلافة، يقوم بها المغترون بالغرب وعملائه، ولا يملكون فيها سوى المزاعم التي لا تستند إلى شيء، والثرثرة الفارغة، والتطاول بغير طائل كما سيتبين في الحلقة التالية بإذن الله. يتبع...
بقلم: المهندس محمود عبد الكريم حسن
رأيك في الموضوع