صادق الكونغرس الأمريكي الجمعة 18/12/2015م على حزمة إصلاحاتٍ تتمثل في إجراء تغييرات في هيكلة صندوق النقد الدولي بما يعزز ثقل ما يسمى الدول الصاعدة. وكانت هذه الهيكلة الجديدة تنتظر الضوء الأخضر الأمريكي منذ عدة سنواتٍ. يذكر أن هذا الإجراء الذي كان قد تم تبنيه في أوج الأزمة المالية العالمية من طرف الـ 188 دولة المشاركة، وهي الدول الأعضاء في الصندوق، يتضمن مما يتضمن مضاعفةَ الموارد الدائمية للصندوق أي حجم الإسهامات أو مجمل حصص المساهمة بحيث تصبح 660 مليار دولار أمريكي. علماً أنه كان يفترض أن يأخذ هذا الإجراء طريقه إلى التنفيذ على أرض الواقع في أواخر سنة 2012م، إلا أنه جرى تجميده بسبب الفيتو الأمريكي، وهو الأمر الذي لطالما أقلق بشكل متزايد هذه الدول الصاعدة المعروفة بمجموعة "بريكس"، أو ما يسمى الدول التعديلية، كونها تسعى منذ أمد إلى تعديل ميزان القوى في المنظومة الاقتصادية الدولية (التي تخضع لهيمنة القوى الغربية الكبرى) وانتزاع المبادرة من القوى المهيمنة. وهو الأمر ذاته الذي - وبنفس القدر - بات منذ سنوات يزعج أيضاً مجلسَ إدارة صندوق النقد الدولي نفسِه، الذي يخشى كثيراً من فقدان "مصداقيته" بحسب القائمين عليه!
ومما لا شك فيه أن مجيء الضوء الأخضر الأمريكي يوم 18/12/2015م سيعيد ترتيب الأوراق داخل مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، وتحديداً داخل الهيئة المشرفة والمسئولة عن إقرار برامج "المساعدات" بحيث يعكس هذا الترتيب الجديد الصعودَ المتنامي لدول ما سمي مجموعة بريكس (الصاعدة) على حساب القوى الغربية المهيمنة على الصندوق منذ نشوئه. يذكر أن الصين التي تمثل القوة الاقتصادية العالمية الثانية، وإلى حد هذه الساعة، ليس بحوزتها سوى أقل من 4%من حقوق التصويت في الصندوق "الدولي"، وهي نسبة تفوق بقليل حصة إيطاليا، التي لا يمثل اقتصادُها سوى خمس حجم الاقتصاد الصيني!
إلا أنه يتوقع بعد تنفيذ الإصلاحات أن يرتفع وزن الصين إلى ما يربو قليلاً على 6%، وستكون بالتالي "الرابح الأكبر" (!) من هذه الخطوة التي ستمنح كذلك زياداتٍ متواضعة في قوة تأثير كل من الهند التي ستنتقل حصتها (من 2.3 إلى 2.6%) والبرازيل (من 1.7 إلى 2.2%) وروسيا (من 2.3 إلى 2.6%). وتبقى كل هذه الدول تقع بعد بريطانيا وفرنسا وألمانيا... في الترتيب.
ستبقى الولايات المتحدة (بوزن 16.5% من حق التصويت في صندوق النقد الدولي) الدولة الأكبر إسهاماً والأثقل وزناً في هذه المؤسسة، وستبقى بالتالي اللاعب الأكبر سياسياً واقتصادياً والقوةَ الأكبر نفوذاً وقدرةً في توجيه القرارات المهمة للصندوق.
ونحن نتساءل: ماذا يعني أن ينتظر قرار متخذٌ من طرف كل الدول الفاعلة (على الأقل على الساحة الاقتصادية عالمياً، بل من طرف كل الـ188 دولة المشارِكة في صندوق النقد الدولي) منذ عام2010م أي منذ خمس سنواتٍ كاملة (بسبب الفيتو الأمريكي)، ماذا يعني أن ينتظر مصادقةَ الكونغرس الأمريكي لكي يأخذ طريقَه إلى الواقع والتنفيذ؟؟؟
لا يعني هذا سوى أمرين اثنين:
1- قرار كهذا لا شك أنه يحتاج بالنسبة لدولة كبرى بحجم أمريكا، دراسة مستفيضة وحساباتٍ دقيقة من جانب خبراء السياسة والاقتصاد الأمريكيين على مستوى التداعيات والتأثيرات على المدى البعيد، بحيث تدرس المآلات وتُضمن النتائج مسبقاً. كما أن الأزمة المالية التي ضربت الرأسمالية المتوحشة في معقلها وفي مركزها منذ 2008م لم تكن لتسمح في خضم تداعياتها على الداخل الأمريكي بمزيد من الزعزعة أو الضغط على أدوات أمريكا في الهيمنة.
2- صندوق النقد "الدولي" هو في الحقيقة مؤسسة أمريكية بامتياز. وهو مؤسسة استعمارية ربوية مجرمة في حق شعوب الأرض كلها، ظاهرها المساعدة وباطنها الإفقار والعذاب. وهو أداة فاعلة من أدوات التسلط والظلم والسيطرة الأمريكية، من خلال التدخل والتحكم في اقتصاديات الدول عبر القروض و"المساعدات" وغيرها.
أما الأرقام الواردة فإنها تكشف أمرين آخرين هما:
1- مدى هيمنة الدولة الأمريكية على الموقف الدولي وعلى العالم وقدرتها على صنع السياسات وإملائها على جميع الدول، ومدى قوة تأثيرها في جميع أنحاء المعمورة. تعطي هذه الأرقام كذلك نظرةً على حجم التأثير (الاقتصادي على الأقل) لكلٍّ من هذه الدول المذكورة في المنظومة الغربية الرأسمالية، المتحكمة اليوم في العالم بالقوة والقهر.
فمجرد وقف قرار "إصلاح" أو إعادة النظر في قواعد اللعبة داخل صندوق النقد الدولي على موافقة الكونغرس الأمريكي (رغم الاتفاق في 2010م من قبل المجموعة الدولية) يدلل على أن الأمر يعتبره صانعو القرار الأمريكي مسألةً أمريكية داخلية، تحتاج إلى تفويض من الشعب الأمريكي عبر ممثليه!
2- يبقى أن الخاسر الأكبر عالمياً هم المسلمون، الذين – بفقدان دولتهم – فقدوا وجودَهم على الساحة الدولية، وآلت مقدرتهم على التأثير في مجريات الأحداث عالمياً إلى الصفر!! فلا وجود لهم اليومَ مطلقاً في السياسية الدولية لا من خلال تعدادهم ولا من خلال العدد الكبير للكيانات (الدول) التي أنشأها الاستعمارُ الغربي في بلادهم. وحدها الدولة الإسلامية (دولة الخلافة) هي من سيعطي للمسلمين دورهم الحقيقي في رسم معالم مستقبلهم وفي تدبير شؤون العالم. وسيبقى المسلمون في حالة الضياع والانحدار هذه حتى يأذن الله بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ستزيل حتماً كل هذه المنظومة الرأسمالية الحاقدة والفاسدة والظالمة والمتسلطة على شعوب الأرض.
نقول أيضاً: إن كل ما قلناه عن صندوق النقد الدولي آنفاً ينطبق تماماً أيضاً على هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومنظمة التجارة العالمية، فكل هذه المؤسسات ومثيلاتـُها نشأت أو أُنشئت لتكون أدواتٍ بيد القوى الغربية الرأسمالية المتغطرسة وأمريكا تحديداً خصيصاً لبسط الهيمنة. فلا يجوز شرعاً أن يكون المسلمون طرفاً في أيٍّ منها ولا بوجه من الوجوه. إلا أن هذا الحكم الشرعي لن يُفعَّل على الأرض ولن يجد طريقه إلى الواقع حتى تعود دولةُ الخلافة ويمتلك المسلمون عندئذ زمامَ أمورهم بأيديهم. ولو أن المسلمين اشتغلوا بالسياسة انطلاقاً من دينهم وهويتهم لقامت دولتهم ولزالت محنتهم. نسأل الله تعالى أن يكرمنا بالخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة عاجلاً غير آجل.
بقلم: صالح - الجزائر
رأيك في الموضوع