لقد أحدث إسقاط تركيا طائرة للروس يوم 24/11/2015 صدمة لهم، وكانت مفاجأة لم يتوقعوها، وظهرت ردود فعل شديدة من قبلهم وخاصة رئيسهم بوتين لأنها مست كبرياءه وحلمه بأن يصبح قيصرا وأن تصبح بلاده دولة عظمى لا يجرؤ أحد على المساس بها وإلا فالويل له. وخاصة أنهم تفاهموا مع تركيا على اختراقات طيرانهم بعدما بدأوا بالاعتداء على أهل سوريا بالتنسيق مع أمريكا يوم 30/09/2015. ولذلك قال بوتين: "إنها كانت طعنة في الظهر". كل ذلك جعل الرئيس الروسي في حالة ارتباك وانفعال عاطفي جعله يتهور ويضخم الأمر ولم يستطع أن يوظف هذه الحادثة لصالح روسيا.
فرفض بوتين الحديث مع الرئيس التركي أردوغان، وأعلن يوم 28/11/2015 مرسوما يتضمن "منع أو تقييد عمل المؤسسات التي تعود لتركيا من القيام بأي نشاط داخل الأراضي الروسية، ومنع استقدام الأيدي العاملة التركية وفرض تأشيرة الدخول مع تركيا اعتبارا من مطلع العام 2016. وأمر كافة الشركات السياحية والسفر الروسية بالامتناع عن تنظيم الرحلات السياحية إلى تركيا. وشملت الإجراءات توجيه الحكومة لفرض حظر على النقل الجوي بين روسيا وتركيا وفرض حظر على الطيران التجاري بين البلدين. وأمر بحماية وضمان أمن الموانئ والمرافئ الروسية في بحر آزوف والبحر الأسود". وفي كل ذلك مردود سلبي على روسيا نفسها حيث سيتضرر اقتصادها الذي يعاني من أزمات خانقة، وتركيا منفذ اقتصادي مهم لروسيا.
فرد أردوغان يوم 28/11/2015 مبديا حزنه فقال: "إنني في الواقع حزين للغاية لما حدث. نحن لم نكن نريد ذلك، ولكن الأمر قد وقع وآمل في ألا يتكرر، وسنبحث هذه المسألة ونجد لها حلا. المقرر أن تنعقد في باريس في 30 من الشهر الجاري قمة المناخ الدولية، وأرى أنها ستمثل فرصة سانحة للقاء الرئيس بوتين بما يخدم العلاقات مع روسيا" "المجابهات لن تعود بالفرحة على أحد، إذ إن روسيا تحظى إلى بلادنا بنفس الأهمية التي تحظى بها بلادنا بالنسبة إليها". فخفف أردوغان من لهجة التصعيد بعدما اتهم روسيا باللعب بالنار عندما احتجزت رجال أعمال أتراكاً كانوا في روسيا.
ولذلك سيعمل أردوغان على إصلاح العلاقات مع روسيا، ومن ناحية ثانية تلبية لأوامر أمريكا حيث طالبه رئيسها أوباما عقب الحادثة بالعمل على "تحاشي حصول حوادث مشابهة من شأنها تعقيد الأمر على الأرض.. والالتزام بإجراء عملية انتقالية سياسية نحو السلام في سوريا وعزمهما المشترك على دحر تنظيم الدولة الإسلامية". لأن أمريكا تريد أن تواصل تسخيرها لروسيا حتى تتمكن من تطبيق حلها السياسي.
لقد استفاد أردوغان من هذه الحادثة فارتفعت شعبيته، وهو يعمل على كسب البرلمان حتى يحوز على 330 مقعدا مؤيدا للاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية لإقامة النظام الرئاسي ليصبح صاحب الصلاحيات، فعندئذ لا ينتظر موافقة البرلمان على السياسات، وخاصة الخارجية التي تتعلق بالسير مع أمريكا التي تدعمه في ذلك، فصار قوميا أكثر من دعاة القومية وعندئذ سيعمل على كسب مؤيدين من الحزب القومي لإجراء الاستفتاء، وسيزيد من تأثيره في سوريا وفي المنطقة، فينفذ لأمريكا المشاريع بكل أريحية حيث أصبح بطلا في نظر الكثيرين في المنطقة.
وكان على روسيا أن تفكر أكثر ولا تعمل على تضخيم الأمر، فقد قامت طائراتها بضرب جبل التركمان فأثار ذلك مشاعر قومية قوية في تركيا، فكان عليها أن تعادل بين الأمرين، وتدرك حساسية الوضع، فتغض البصر عن الحادثة، وتقبل من الأتراك تبريراتهم ولو لم تقتنع بها، حيث قال أردوغان يوم 26/11/2015: "لو علمت تركيا بأن الأمر يتعلق بطائرة روسية لتصرفت بشكل مختلف. وأن تركيا لا تريد أن تتوتر العلاقات التركية الروسية، وأن العلاقة الاقتصادية بينهما متقدمة". وذكر أنه "اتصل بالرئيس الروسي ولكن لم يجبه". ورد عليه بوتين قائلا: "إنه من المستحيل أن تركيا لم تتعرف على الطائرة".
لقد كان بإمكان الرئيس الروسي لو لم يتصرف عاطفيا أن يوظف هذه الحادثة لابتزاز تركيا وأخذ تنازلات منها في أمور اقتصادية وسياسية، لأن تركيا بحاجة إلى روسيا، ولكن جنون العظمة غرّه. فهناك مشاريع مد أنابيب الغاز عبر تركيا فيمكنه أن يضغط على تركيا لتحقيقها، ومرور الطيران الروسي فوق تركيا والتنسيق معا في سوريا. فروسيا ضخمت الأمر فوقعت في مأزق لتجعله مسألة كرامة، فلو قبلت بما قاله الأتراك لما انجرحت كرامتها، لأنها تدرك أنها لن تستطيع أن تخوض الحرب مع تركيا لتورطها في سوريا، وعندئذ ستتوحد الصفوف ضدها، ولأن تركيا عضو في الناتو، وتعدّيها على تركيا يعد تعديا على الناتو، ووضعها الاقتصادي لا يساعدها على خوض حرب مع تركيا، وهي تعاني من مشاكل أمنية بداخلها وبجوارها، وعندئذ ستنقلب الأمور عليها. ولذلك رأينا بوتين اتجه نحو العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية، ولو كان بإمكانه أن يقوم بعمليات عسكرية لفعل. وهو في المستقبل سيضطر إلى التعامل مع تركيا ولا يستطيع أن يستغني عن ذلك، ولكنه سيعمل على أن تعتذر تركيا حتى يحفظ ماء وجهه.
إن روسيا لم تكن ناجحة في سياستها في الشرق الأوسط حتى على عهد الاتحاد السوفياتي الذي كان يعتبر دولة عظمى تنافس أمريكا. فما دخلت بلدا إلا وتطرد أو تنسحب منه، كما حدث في مصر السادات، وفي العراق مع سقوط صدام، وفي ليبيا حيث تنازلت لأمريكا في مجلس الأمن وسحبت دعمها للقذافي، فاعترف بوتين بخداع أمريكا له. والآن جاءت إلى سوريا بخدعة أمريكية، حيث إن أمريكا تسخّر روسيا لحماية عميلها بشار أسد حتى تجد بديلا.
ولو كانت روسيا عاقلة لتركت أمريكا وحدها تصارع المسلمين في سوريا وفي المنطقة حتى يسقطها المسلمون، بل تقوم بدعمهم مؤقتا حتى يسقطوها ويطردوها من المنطقة، وفي ذلك خير لها حيث ستتمكن من حماية نفسها من أمريكا التي تتسلط عليها في مناطق نفوذها في أوكرانيا وجورجيا وآسيا الوسطى. فقد لعبت أمريكا في أفغانستان وتركت الاتحاد السوفياتي يصارع المسلمين، بل قامت ودعمتهم حتى هزموه، ومن ثم التفت عليهم وعملت على اللعب بهم واحتلال بلدهم وتخريبها.
إن ما يشاهد على روسيا هو أنها تفتقد لرجال الدولة، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومبدئه الشيوعي جاء رجال يتخبطون أمثال يلتسين، ومن ثم ومنذ 16 عاما ملكها رجل واحد وهو بوتين يتحكم بها ويغيّر في قوانينها وسياساتها كيفما يشاء، بيده كل الإمكانيات، ويعمل على إخراس أو تصفية كل صوت يعارضه في سبيل بناء شهرة قيصرية، وتوهما ببناء أمجاد روسيا العظمى. فمثل هذه الدولة ضعيفة، محكوم عليها بالهزيمة. وخاصة أنها تقع في فخاخ أمريكا التي ورطتها في سوريا وستكون وقودا لها حتى تحقق مآربها وتتركها في مواجهة المسلمين يهزمونها أو يطردونها. فإذا تمكنت أمريكا لا سمح الله بإبقاء النظام العلماني قائما وطبقت حلها السياسي الخبيث فسوف تطرد روسيا من سوريا وترحل مع بشار، لأنها تعتبر طرفا في صفه، فلا يمكن أن يقبلها أهل سوريا، وسوف يضطر الحكام من عملاء أمريكا إلى طردها لإرضاء الناس. وإذا انتصر المسلمون على أمريكا عندما يسقطون حلها السياسي وعميلها بشار أسد ونظامه العلماني ويقيمون حكم الإسلام، ونسأل الله أن يحقق ذلك، عندئذ سيطردها المسلمون مع أمريكا مدحورة مذمومة.
رأيك في الموضوع