في تموز/يوليو من هذا العام 2015م أعلنت الصين أنها رفعت مدخراتها من الذهب بإضافة 604 طنا لتصل إلى 1658 طناً أي بزيادة بنسبة وصلت إلى 57%. وهذه هي المرة الأولى منذ عشر سنوات التي تقوم فيها الصين بتحديث مدخراتها، ويرى عدد من المراقبين أن هذا الرقم (المعلن) متواضع، مما يشير إلى احتمالية أن يكون أعلى بأضعاف بسبب التدفق المتزايد للذهب من الغرب إلى الشرق مثل الهند وروسيا وغيرهما من الدول التي تجمع الذهب؛ ثم إن الصين لا تبيع أياً من ذهبها المستخرج. ولقد تزامن كل هذا مع انخفاض أسعار الذهب المستمر منذ 2011، الأمر الذي يبدو غريباً إذا ما افترضنا أن السعر بالعادة يرتفع إذا ما ازداد الطلب. ويحدث هذا أيضاً على خلفية السياسات المالية التي تتبعها الحكومات الغربية بما فيها المستويات العالية من التيسير الكمي من الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا. تبدو الولايات المتحدة وغيرها من الحكومات سعيدة في دعم الأسعار المنخفضة لإشباع الطلب الشرقي. وكان المنظر الاقتصادي الشهير جون مينارد كينز قد ادعى أن مجد الذهب، كركيزة مالية، أصبح من الأيام الخالية وأن قيمته المالية أضحت قليلة. ولكن ربما نستطيع أن نتعلم شيئاً من التصرفات الصينية في سوق الذهب.
القاعدة الذهبية تقول إن "من يملك الذهب يضع القوانين"، بناءً على أن الذهب تاريخياً كان العملة المسيطرة لأنه من الأصول ذات القيمة الملموسة (جواهر، وتطبيقات صناعية وغيرها) وأنه كان دائما ملاذ من يريد المحافظة على قيمة ثروته ومدخراته في حالة الأزمات بدون منازع. بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى وليس مفاجئاً أن تمتلك أكبر احتياطي للذهب في العالم بما يزيد عن 200.000 طن. بالإضافة لهذا وبسبب استقرارها السياسي والاقتصادي - فهي نجت من ويلات الحرب الأوروبية - كان ينظر إليها على أنها الملاذ لتخزين الذهب (فورت فوكس والاحتياطي الفيدرالي). في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 حققت الولايات المتحدة نصراً عظيماً بجعل الدولار الأمريكي العملة العالمية. وتعهدت الولايات المتحدة بالتعويض عن كل دولار بالذهب بمعدل 35 دولاراً للأونصة الواحدة، ما عنى عملة ورقية بغطاء الذهب. ولكن مع أزمات الدولار المتعاقبة بسبب استغلال مكانتها، (كانت تطبع الأوراق النقدية بشكل مفرط في نهاية الستينات وبداية سبعينات القرن الماضي) أوقف الرئيس الأمريكي نيكسون، وبتصرف أحادي، دعم الدولار بالذهب عام 1971. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الولايات المتحدة والعالم أجمع يعتمدون على سعر تداول طائش على أساس العملة الورقية بدون دعم من الذهب أو أي أصل ثابت. ومع هذا يبقى الذهب مهماً. وما زالت الولايات المتحدة تخفض من سعر عملتها مع أكبر ميزان عجز شهدته البشرية، وتستمر في رفع سقف الديون (التي يسمح الرئيس والكونجرس ومجلس الشيوخ بها). اعتمدت السياسة الأمريكية على استخدام الدولار كسلاح اقتصادي مع "بترو-دولار" (معظم تجارة البترول العالمية تتعامل بالدولار، فمعظم تعاملات التجارة الدولية تعتمد الدولار وهذا يمكن أمريكا من التحكم بالعصب النقدي للتجارة العالمية)، وأسواق السندات الكبرى المعتمدة على الدولار بما فيها (أذونات الخزائن والسندات)، مما قاد إلى طلب عالمي على الدولار ما يضمن قدرة الولايات المتحدة على الإنفاق على طموحاتها العسكرية في العالم بوجود دولار قوي. أحد المعوقات القليلة لهذه السيطرة هو الذهب لأنه لا يمكن طباعته من العدم (مثل الأوراق المالية)، ولطالما جعل الحكومات صادقة مع ميزانيتها عندما استخدم كنقود. وحين أنكر الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بن بيرنانكي، أن الذهب هو عبارة عن نقود، فهذا ليس مفاجئاً البتة، لأن أمريكا تسعى لسيطرة الدولار ولإزاحة الذهب من منافسة الدولار.
لذا ما هو طموح الصين؟ تماشياً مع ارتقاء مكانتها، وهي الاقتصاد الأكبر الثاني وما زالت تنمو، تريد الصين أن تجعل من عملتها اليوان مؤهلاً للانضمام إلى سلة العملات القائدة. وحتى تفعل ذلك فهي بحاجة إلى قبول وقوة أكبر لعملتها، مع أن اليوان ليس مدعوماً بالذهب، فيساعد ازدياد احتياطي الذهب على هذا. وتبني الصين مكانتها بحيازة أصول اقتصادية ملموسة. وقد تمكنت الصين من تجميع ما يعادل 2 ترليون دولار من سندات الخزائن الأمريكية نتيجة لتعاملها التجاري مع الولايات المتحدة؛ ثم إن نظرة على الأمد البعيد للاقتصاد الأمريكي تبدو ضبابية مع سياسة البنك الفيدرالي القائمة على حماية نظامه المصرفي بواسطة طبع النقود الورقية بدلاً عن موازنة الميزانية. كما أن قيام الصين بشراء الأراضي والشركات الإنتاجية والمعادن والثروات الطبيعية (حيثما استطاعت ذلك في أفريقيا وأمريكا اللاتينية) في عالم تسيطر عليه الأوراق المالية يعتبر أمراً حكيماً.
لربما تشعر الحكومات الغربية بالسعادة في وضعها الثقة حصرياً في أنظمة النقود الورقية منذ عام 1971م ولا تمانع في انتقال ذهبهم إلى الشرق، ولكن البقاء في مركز قيادة الأمم (أمريكا)، وسيطرة عملة على العالم (الدولار الأمريكي) أمرٌ لن يدوم إلى الأبد، وتريد الصين أن تكون جاهزة لوراثة الدولار حين يتهاوى. وتعمل الصين على إدخال اليوان في سلة حقوق السحب الخاصة المعتمدة في صندوق النقد الدولي، وهناك معياران رئيسيان لدخول السلة هما قيمة صادرات وواردات البلاد الإجمالية ومدى مرونة تحويل العملة بالكامل وفقا لحساب رأس المال.ويراجع صندوق النقد الدولي العملات في سلة حقوق السحب الخاصة كل خمس سنوات. وفي آخر مراجعة في 2010، استوفى اليوان الشرط الأول إلا أنه لم يحقق المتطلب الثاني وهو "الاستخدام الحر." وكان البنك المركزي الصيني قد أعلن في 21/10/2015 عن إصداره سندات بقيمة 5 مليار يوان في لندن وهي المرة الأولى التي يصدر فيها تلك السندات خارج حدود الصين. وهذه الخطوة جزء مهم من استراتيجية تدويل اليوان لزيادة حضوره في سوق السندات العالمية، ويأتي هذا الإعلان ضمن سلسلة اتفاقيات مالية بين الصين وبريطانيا. وأصبحت بريطانيا العام الماضي أول دولة غربية تصدر سندات سيادية مقومة باليوان.وخلال زيارته للصين الشهر الماضي، أكد وزير المالية البريطاني جورج أوزبورون على دعم بلاده لتدويل الرنمينبي ورغبتها في جعل لندن محورا غربيا لتجارة العملة الصينية. وسبق أن أيدت بريطانيا تأسيس البنك الآسيوي للتنمية الذي أنشاته الصين لمنافسة البنك الدولي الذي تهيمن عليه أمريكا؛ وخلال زيارة الرئيس الصيني لبريطانيا الأسبوع الماضي تم توقيع عقود سخية، بلغت قيمتها الإجمالية بحسب ديفيد كاميرون «حوالي 40 مليار جنيه» (50 مليار يورو)، شملت تمويل الصين لبناء محطة نووية في بريطانيا بالمشاركة مع شركة فرنسية. وهذا ما يشير إلى مسعى بريطاني حثيث لكسب الصين إلى جانبها.
بقلم: جمال هاروود ـــ بريطانيا
(مترجم)
رأيك في الموضوع