حصلت في الآونة الأخيرة تغيرات في المواقف المتعلقة بسوريا، منها المواقف الأوروبية تجاه بشار أسد، والدعم الروسي الكبير له، وما صدر عن أردوغان، ومسألة الهدنة المتعلقة بالزبداني والفوعة وكفريا والدور الإيراني، وما طرحه دي ميستورا من حل، وغيرها من أمور.. فهل يشير ذلك إلى تقدم في السير نحو الحل الذي تراه أمريكا مع إعطاء حصة لأوروبا وبخاصة بريطانيا وفرنسا وكذلك روسيا وأن يترافق ذلك مع العمل على القضاء على الفصائل التي تعارض ذلك الحل؟ أم أن الأمور لا تزال في إطار المحاولات السابقة؟
نجيب عن هذه التساؤلات لافتين النظر إلى أن أمريكا قد عجزت حتى اليوم عن تطبيق الحل السياسي من خلال جنيف1 و2 والمبادرات العربية والأممية بواسطة عنان والإبراهيمي مما يدل على صلابة الثورة السورية المباركة.
وكان هناك تعمد في إخفاء دور بشار أسد، إلى أن أرسلت دي ميستورا ليعلن بكل صراحة يوم 13/2/2015 بأن "الأسد جزء من الحل وسوف نستمر في إجراء مناقشات معه". فأعلنت أمريكا من خلاله أن الأسد الآن باق. وجاء تأكيدها على لسان وزير خارجيتها كيري يوم 15/3/2015 بأن "الولايات المتحدة ستضطر إلى التفاوض مع الرئيس السوري بشار أسد بشأن تحول سياسي في سوريا". وزاد موقفها تأكيدا بتصريح كيري يوم 19/9/2015: "إن توقيت رحيل الأسد عقب إبرام اتفاق سلام سيكون قابلا للتفاوض". فكل ذلك يعني أن أمريكا عجزت عن إيجاد العميل البديل وتريد أن يبقى العميل الحالي بشار أسد في الحكم إلى أن تبرم اتفاقا قابلا للتنفيذ بموافقة أطراف لها دور مؤثر في الثورة السورية. وبذلك تريد أن تضغط على أهل سوريا لتقول لهم إن الأسد باق ما لم تأتوا وتوقعوا على الاتفاق الذي يتضمن الحل السياسي.
وجاءت أمريكا بخطة دي ميستورا التي أقرت بالإجماع في مجلس الأمن يوم 17/8/2015 التي تتضمن تشكيل لجان أربع في مرحلة انتقالية ليتم فيها إنشاء هيئة حاكمة انتقالية تتمتع بسلطة مطلقة في جميع الشؤون العسكرية والأمنية وتشرف على مجلس عسكري مشترك ينسق مع جميع البنى العسكرية المحلية القائمة، ويشمل ممثلين عن الأطراف المقاتلة التي تتمتع بحضور كبير وسيكون بمثابة منصة مستعملة لقيادة جميع العمليات العسكرية التي تقدم عليها الأطراف، ويضمن احترام وقف إطلاق النار والمحاربة المشتركة للتنظيمات "الإرهابية" واستعادة وحدة أراضي البلاد، وتأسيس مجلس وطني سوري مع تعليق مجلس الشعب مع مراجعة دستورية ورفض اجتثاث حزب البعث ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشراف الأمم المتحدة. وقد أصدرت فصائل سورية معينة بلغ عددها 26 فصيلا مسلحا بيانا يرحب بذلك مؤيدة "الدعوة إلى الشروع بعملية سياسية تفضي إلى انتقال سياسي وفق بيان جنيف الذي ينص على هيئة الحكم الانتقالي.." ولكن البيان تحفظ على بعض النقاط فأضاف "على شرط رحيل بشار الأسد وكل أركان نظامه وألا يكون لأي منهم مكان أو دور في سوريا الجديدة والمرحلة الانتقالية" وطالب البيان "بإبعاد إيران عن أي مشاورات خاصة بالشأن السوري..." ودعا "إلى حل الأجهزة الأمنية وإعادة هيكلية مؤسستي الجيش والقضاء". فمعنى ذلك أن هناك تجاوباً من بعض الفصائل المقاتلة ولكن ليس تاما. والمعروف أن كبرى هذه الفصائل واقع تحت تأثير الدول الإقليمية التابعة لأمريكا بسبب المساعدات التي تتلقاها.
وبدأت أمريكا تبرز الدور الروسي وتضخمه وكأنها قلقة منه بالفعل حتى تجعل الدول الأوروبية تسير وراءها في تأييد خطتها بقبول الأسد في المرحلة الانتقالية وتخيف أهل سوريا من روسيا بأنها ستدخل بقواتها لحماية الأسد حتى يستسلموا لخطتها، ولهذا أعلن وزير خارجيتها كيري يوم 5/9/2015 بأنها "تشعر بقلق عميق بسبب تقارير تقول إن موسكو تتجه نحو تعزيز عسكري كبير في سوريا ينظر إليه على نطاق واسع على أنه يهدف إلى تعزيز الرئيس بشار الأسد". فبدأت تحصر أمر سوريا مع روسيا وتظهرها كأنها منافس لها، فيقوم وزيرها بفتح خط ساخن مع نظيره الروسي، ومن ثم تعلن أن رئيسها أوباما سيلتقي الرئيس الروسي بوتين على هامش اجتماعات الأمم المتحدة السنوية يوم 28/9/2015 لمناقشة المسألة السورية وقضايا أخرى.
وعندئذ شعرت أوروبا كأنها معزولة فهرولت نحو الإعلان بقبول بشار أسد فذهب وزيرا خارجية كل من إسبانيا والنمسا إلى إيران يوم 7/9/2015 وأعلنا تأييدهما لبقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، وأعلن وزير خارجية بريطانيا مثل ذلك يوم 21/9/2015 وتلاه بيوم وزير خارجية فرنسا بالتصريح بقبول الأسد في المرحلة الانتقالية. وأما الألمان فلهم موقف آخر، فهم لم يعلنوا تأييدهم للثورة السورية، ولم يطالبوا برحيل الأسد، بل هم يعترفون به ويتعاملون معه بشكل طبيعي، ولهذا أيدوا الأمريكان ببقاء الأسد عقب تصريحات كيري يوم 15/3/2015. فقال وزير خارجيتهم شتاينماير يوم 18/3/2015: "إنه لا يستبعد بشكل مبدئي إجراء محادثات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد". وأعلن دعمه لمساعي دي ميستورا ووزير خارجية أمريكا. مع العلم أن دول أوروبا تطمع في أن يكون لها دور ومكان في المفاوضات مثلما حصل في مفاوضات النووي الإيراني.
وتريد أمريكا أن تستعمل روسيا بجانبها للقضاء على الحركات الإسلامية الرافضة للمشاريع الأمريكية، فتفتح جبهة ثالثة بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والإرهاب، وسواء طبقت الحل اليوم أم لم تطبقه فترى أن أمامها مشكلة كبيرة تتعلق برفض الأمة الإسلامية لنفوذها ولمشاريعها والثورة السورية تجسد ذلك، ونجاح الثورة السورية نجاح لكل الأمة وللإسلام، ولذلك تستعين أمريكا بعدو مثلها حاقد على الإسلام وأهله ومتخوف من عودته إلى الحكم وإلى مشارف موسكو.
إن أمريكا مصرة على إعطاء إيران دورا تلعبه في المنطقة ولو كره أهل المنطقة ودولها. فقال وزير خارجيتها كيري وهو يقف بجانب نظيره الإيراني ظريف في نيويورك بعد اجتماعه به يوم 26/9/2015: "نحتاج إلى تحقيق السلام وسبيل المضي قدما في سوريا واليمن وفي المنطقة، أعتقد أن هناك فرصا هذا الأسبوع عبر المناقشات لتحقيق بعض التقدم".
فالسعودية متخوفة من ذلك رغم أنها موالية هي الأخرى كإيران لأمريكا، إلا أنها تدرك أن أمريكا ستستعمل إيران للضغط عليها في كل حاجة وسيكون لأمريكا يد أخرى تستعملها في المنطقة إذا لم تنفذ لها كل ما تريد. وكذلك أهل سوريا يرفضون دور إيران بسبب ما فعلته من جرائم هي وحزبها في لبنان والنظام السوري الذي تحافظ عليه وتقاتل دونه. حتى إن الفصائل التي تنازلت وقبلت بخطة دي ميستورا رفضت الدور الإيراني كما ورد في بيانها.
ومن هنا يفهم معنى الوساطة الإيرانية في شأن سوري داخلي لتحقيق اتفاقية تتعلق بالزبداني والفوعة وكفريا. حيث قام دي ميستورا وطلب من إيران أن تكون طرفا في المفاوضات بجانب تركيا وممثلين عن الأمم المتحدة وممثلين عن بعض الفصائل المسلحة في الثورة السورية. وهذا التصرف من دي ميستورا لا يكون إلا بإيعاز من أمريكا حتى تثبت دور إيران وتري الجميع مدى نجاحه وأهميته، حيث إنها تمثل حزبها في لبنان والنظام السوري، فتقول للجميع إنه لا غنى عن الدور الإيراني في سوريا وفي غيرها من المناطق. وهذا الاتفاق يعتبر خطوة لبدء المحادثات المتعلقة بالحل ككل بحضور إيراني.
وقد أعلنت تركيا أردوغان يوم 24/9/2015 تأييدها لبقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، ومعنى ذلك أن تركيا ستمارس ضغوطها لصالح الحل الأمريكي على الفصائل المسلحة الرافضة التي تجد في تركيا منفذا لها وكذلك على عموم أهل سوريا.
ومن هنا يظهر أن أمريكا قد أحرزت بعض التقدم نحو حلها السياسي نظريا، ولكن هل يتم ذلك فعليا وأهل سوريا ما زالوا يصرون على إسقاط النظام، وما زالوا يحققون انتصارات رغم خذلان الجميع لهم ومكر أمريكا وتدخلها مباشرة بذريعة محاربة تنظيم الدولة، وقد أدخلت إيران وحزبها اللذين لم يحققا نصرا ولم يتمكنا من استعادة الأراضي التي فقدها النظام، بل خسر المزيد، وتعمل على تقوية هذه الجبهة بروسيا مباشرة حتى تخضع أهل سوريا لحلها؟ فأهل سوريا قادرون على التصدي لذلك وإفشاله، فإذا أصروا على مواقفهم رافضين بشار أسد ونظامه وخطة دي ميستورا وغيرها من الحلول الأمريكية ومستعينين بالله فلن ينال عدوهم منهم خيرا، وعسى ربهم أن يهلك عدوهم ويستخلفهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
رأيك في الموضوع