لا يزال العراق بلدا محتلا منذ دنست أرضَه أمريكا الكافرة بعلوجها وأزلامها عام 2003، فأذلت أهله، ودمرت عمرانه، وفككت مؤسساته وسرحت جيشه، ونهبت أمواله وبددت ثرواته. ومن حينه عمِلَ الغزاةُ كل ما في وسعهم لتدمير هذا البلد العريق، وزرع مختلف أسباب الفتنة بين أبنائه لتُحيله أثرا بعد عين: فمن دستورها المفروض عنوة والملغَّم بمكائد النزاعات القومية والطائفية، ونظام المحاصصة البغيض، ومشروع تقسيمه إلى أقاليم طائفية وعرقية، ثم عهِدتْ بحُكمهِ لشرذِمة مغمورة من الحاقدين عليه وعلى أهله، ممن لا يُضيرهم خرابُه لانعدام ولائهم له، ثم كللت جرائمَها بتسليمه لشُرطيِّها في المنطقة: إيران وحكامها العملاء الذين باتوا هم الحكام النافذين فيه، يرفعون حزبا ويضعون آخر، ويُدنون هذا ويُبعدون ذاك، فيبيعون ويهبون ما لا يملكون دون أن يرقُبوا في أهل العراق إلاً ولا ذِمة. وعمدت الأحزابُ والكتل السياسية - بشكل عام - إلى تعزيز وضعها ومكانتها والوصول لمناصبها عن طريق تبني فصائل مسلحة من خارج المؤسسة العسكرية، أي مليشيات تُعِينُها على فرض آرائها وحماية (مكاسبها).
ولا ينزع عن العراق وصفَ الاحتلال الآثمِ بعضُ إجراءاتٍ شكلية يراد منها بعث رسائل مزيِّنَةٍ ومزيِّفَةٍ للواقع المرير الذي نحياه، بزعمهم أنه بات بلدا حُرا ذا سيادة كاملة، يملك أمره وقراره السياسي، مؤطراً بدستور، وسلطاتٍ تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلٍ بعضها عن بعض.. كما لا يرفع احتلاله خروجُ بعض قواته الغازية نهاية عام 2011، فأمريكا لا تزال هي صاحبة القرار النهائي فيما يخص أمن العراق وحربه وعلاقاتِه الخارجية، وهي موجودة بعملائها وأذرعها وقواعدها الدائمة والمؤقتة، ومشاريعُها المهلكة تُعَد أوامر لا يملك حاكمٌ أو مسؤولٌ مهما علا نقضَها أو تعطيلها.
لقد أصبح العراق يُعاني من فراغٍ سياسيٍّ خطير، فلا مهابة لحكومة، ولا طاعة لمسؤول إلا بقدر مكانته في حزبه وامتلاكه للمال السياسي. بل بات الناس لا يأمنون على أنفسهم أو ممتلكاتهم، فلا قانون يضمن حقوقهم، ولا سلطة نزيهة يلجأ المظلوم إليها. وأصبحت أنباء الخطف والقتل وافتعال الحرائق أمراً لا يُفاجئ الناس، وانظروا كيف تبخرت "إصلاحات" رئيس الوزراء (العبادي)، وانحسر مدُّ التظاهرات الجماهيرية المطالبة بملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم عندما اصطدمت تلك المحاولات الخجولة بصخرة "النافذين" الذين تمترسوا بتلك الفصائل المسلحة..!
لم يكن بدٌ من سرد تلك المقدِّمة - على طولها - ليتسنى للقارئ فهمُ مجريات الأمور على ضوئها، واستيعابُ ما ينقله الإعلام من تصريحات (قادة) العراق بشكل سليم، ولتجنب الوقوع في الخطأ الباعث على تشويه الحقائق وخلط الأمور، وإليكم البيان:
- حين يُعلن المتحدث باسم البيت الأبيض "جوش ايرنست" أن رئيس الوزراء العراقي (حيدر العبادي) يؤيد مساعي واشنطن لإرسال (200) من أفراد قوات العمليات الخاصة الأمريكية للعراق.. فإن ذلك الإعلان لا بد لفهمه من وَجهَين:
الأول: أن إشعارا أمريكيا وُجِّهَ (للعبادي) بشأن إرسال تلك القوات، وأنه أمرٌ مفروغٌ منه.. فلم يسَعِ (العبادي) غيرُ الرضوخ والتسليم، فلا قِبَل له بتعديله أو إلغائه..! وإن كان شيء من تأييده ففي السِّرّ.
الثاني: أن (العبادي) فوجئ بذلك الإعلان، ولم يسبق أن طرحه على أحد، ولا طاقة له بتكذيبه، كيف لا وهم أولياء نعمته، وربما غضبوا منه أو عليه..!
وإن ما يُقال بحق رئيس وزراء العراق ليس بِدعاً، فما حالُ إخوانِه حكامِ الضرار ونواطير (مصالح) الكفار المستعمِرين بأحسن منه، فها نحن نراهم أسوداً على شعوبهم، يحرقون الأخضر واليابس إذا ما انتفض الناس مطالبين برفع الحيف عنهم جراء الأنظمة الرأسمالية التي أحالت بلاد المسلمين مزارع خلفية لنفوذهم، يسرحون فيها ويمرحون دون نكير من أولئك الإمَّعات، فها هو "كيري" وغيره من الساسة والقادة العسكريين والمدنيين الكفار يجوبون بلاد المسلمين شرقا وغربا ويعربدون ويهددون، ويُملون على أهلها مشاريعهم الشيطانية.
ولمن يُطالب بالدليل على صدق ظننا، فلينظر لما سُمِّيَ زورا وبهتانا "بالتحالف الدولي" لمحاربة "تنظيم الدولة" الذي بات يضم قرابة (65) دولة، وما رافقه من قرارات واستقدام معدات ومنظومات عسكرية وقوات مسلحة من كل الصنوف فضلا عن إقامة قواعد عسكرية هنا وهناك.. وخبروني بربِّكُم هل حصل ذلك كله بإذن أحدٍ من الحكام الذين جعلوا من أنفسهم وأتباعهم (آلهة) مقدسة يحرم توجيه النقد إليها مهما قاست وتألمت شعوبهم..؟
وليس بعيدا، دخول إيران بقطاعات من جيشها معززة بصنوف الأسلحة والمدرعات أراضي العراق بحُجة طرد "التنظيم" وبحراسة جوية أمريكية، فهل انتظروا إذن (العبادي) أو غيره قبلَ ذلك..؟! وها هي الأخبار تتوارد عن دخول (3) أفواج عسكرية تركية شمال العراق سواء لضرب حزب العمال الكردي أو استعدادا لدخول نينوى وتحريرها من قبضة "التنظيم" ونجزم أن حصول ذلك تم برضا وعلم أمريكا، فلماذا العجب..؟ لقد واللهِ بات العراق أشبه شيءٍ ببُستان غاب أهلهُ أو غُيِّبوا، وسقطت حيطانهُ، وأصبح نهبا لكل شاردٍ ووارد.
- وأما ردُّ (العبادي) على إعلان "جوش ايرنست" بقوله: نجدد التأكيد على عدم حاجة العراق إلى قوات برية أجنبية.... فهو - الآخر- كلامٌ عامٌّ يخلو من أيِّ اعتراض بل ولا إبطال لما سيتم إرساله من القوات الخاصة الأمريكية! ولو قصد (العبادي) الاعتراض لكان عليه أن يُصَرّحَ بأنه يرفض إرسال (المائتين) من الجنود الأمريكان إلى العراق ويمنع دخولهم، فلا لفَّ ولا دوران.
- ومثل ذلك قول (العبادي): ولم نطلب من أي دولة إرسال قوات برية أجنبية، فباق على عمومه، وربما أعقبه طلب من أمريكا بنفس المعنى سراً أو علانية...! ومثله لا حجة فيه في موضع الخصام.
- وقول (العبادي): وسنعُدُّ إرسالها عملاً معادياً... فهو إما أن يقصد دخول قوات كثيرة كالتي احتلت العراق سابقا، ولا يمس ذلك المجاميع الصغيرة، فلكلٍّ حكمهُ ووضعُه. وإما أنه يُرددُ ما صرَّح به بعض قادة المليشيات (كقيس الخزعلي/قائد عصائب أهل الحق) وما شابهَ قوله من باقي المليشيات.. لأن (العبادي) بات يخشى على حياته من خطر عناصر تلك الفصائل الذين صرحوا علانية أن بإمكانهم القيام بانقلاب على حكمه، ودون مواربة، ولم يقوَ (العبادي) على استدعائهم أو محاسبتهم.
وأخيرا، فخلاصة القول: إن تصريحات رئيس الوزراء (العبادي) آنفة الذكر، لا يصِحُّ فهمها أو أخذها إلا على نحوِ ما بيَّنا، أي أن فيها ظاهرا وباطنا، وذلك شأن المنافقين الذين يأتون هؤلاء بوجه وأولئك بوجه، ﴿قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، فإن أمريكا ماضية في تنفيذ مشاريعها في العراق وسوريا وفي غيرهما، وهي الآمرة الناهية في العراق، ولن تعبأ بقول (العبادي) ولا غيره.. فهي التي جاءت بهم، وستبدِّلهُم متى شاءت، ولقد سمعنا الكثير من هاتيك التصريحات، من قبيل أن سيادة البلد خطٌ أحمر لا يمكن التساهل فيه، منذ بداية الاحتلال وإلى الآن، ولا يُراد منها إلا الاستهلاك المحليّ والإعلاميّ، ولعل الأمريكان يُشاركون (العبادي) نفس اللعبة، بأن يُصرح أو يعلن على الملأ شيئا، ويُخفي حقيقة معناه، أي يجاري الأمريكان سِراً، ويُرضي المليشيات الطائفية المتغولة بظاهر الكلام، ليأمن شرهم من جهة، وتمضي أمريكا معه إلى ما تريد من جهة أخرى..! فالكلُّ في قبضتها ويأتمرون بأمرها بشكل مباشر كحكام العراق، وغير مباشر كالمليشيات عن طريق ولية نِعَمِهِم: إيران ووليها الفقيه مرشد "الثورة"، الذي يُهَيمن عليها، ويوجهها الوجهة التي تتناسق والمشاريع الأمريكية، وإنما يهم أمريكا الأفعال لا الأقوال، وكم من حاكم اتخذ من الكذب وسيلة لإشغال الجماهير المضللة، وإشعال حناجرهم بالهُتافات بحياته ونصره سنين عددا، ثم انكشف المستور، وبانت حقيقة مكره وخداعِهِ وذهبَ غير مأسوف عليه ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ﴾، وإننا لنبتهل إلى ربنا عز وجل أن يُسدد خطا العاملين المخلصين، ويوفقهم لقطف ثمار جهودهم بقيام دولة الخلافة الإسلامية الراشدة الثانية على منهاج النبوة لاستئناف الحياة الإسلامية من جديد، وإصلاح ما أفسده المجرمون ويُرِينا مصارعهم، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.﴿ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق - العراق
رأيك في الموضوع