انحسرت موجة المد اليساري الاشتراكي في دول أمريكا اللاتينية في السنة الأخيرة بشكل كبير، فتبدّلت الأنظمة في أبرز دُولها، وعادت النُخَب اليمينية الرأسمالية الموالية لأمريكا إلى سُدّة الحكم، وتلاشت السياسات الحمائية الاشتراكية التي وَسَمَت اقتصاديات تلك الدول في الحقبة الأخيرة، واختفت معظم برامج الدعم الإنسانية للطبقات الضعيفة - وهي الطبقات التي تُشكّل الأغلبية في تلك الدول - في مجالات الصحة والإسكان والتعليم وغيرها، وفقدت الحركات اليسارية اللاتينية البيرونية والبوليفارية التشافيزية بريقها، وتحطّمت آمالها في التغيير على صخرة التدهور الاقتصادي، وفقدت الأمل في الانعتاق من التبعية الأمريكية الاقتصادية، وتفشّت حالة الركود المزمنة، وكُسِرت حِدّة العداء التاريخي ضد الولايات المتحدة الأمريكية لدى الرأي العام، والتي سادَت مجتمعات أمريكا اللاتينية في الخمس عشرة سنة الأخيرة.
إنّه ومنذ أواخر العام 2015 وحتى الآن، والهزائم تتوالى تترى على الأنظمة الاشتراكية اليسارية لصالح اليمين الرأسمالي في دول القارة الأمريكية الجنوبية، فقد مُنِيت تلك الأنظمة بنكسات متباينة في كلٍ من الأرجنتين وفنزويلا وكوبا وكولومبيا والبرازيل.
ففي الأرجنتين فاز الرئيس اليميني موريسيو ماكري المتحالف مع الرأسماليين المحليين المهيمنين على غالبية قطاع الأعمال، والمؤيد بشدة للتعاون مع الأمريكيين في الانتخابات الرئاسية، والتي أجْريت في أواخر شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2015، فاز ماكري على دانيال سيولي مرشح اليسار المدعوم من الرئيسة البيرونية المنتهية ولايتها كريستينا كيرشنر، وذلك بعد امتداد حكم اليسار في الأرجنتين لمدة 12 عاماً.
وفي فنزويلا هُزِم الحزب الاشتراكي الحاكم في الانتخابات التشريعية التي أجْريت في السادس من كانون الأول (ديسمبر) من العام 2015 على يد ائتلاف الوحدة الديمقراطية المدعومة من أمريكا، واعترف الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو بهذه الهزيمة وقال: "نحن هنا بكل الأخلاق والمُثل نُقرّ بهذه النتائج السلبية"، وبعد ظهور هذه النتائج بدأت تضغط المعارضة على الرئيس لإجراء استفتاء في صيف هذا العام 2016 للتصويت على إجراء انتخابات مبكرة، والإطاحة بمادورو قبل إكمال فترة حكمه التي تنتهي في العام 2019.
وفي كوبا عادت العلاقات الدبلوماسية مع أمريكا في أواخر العام 2015، وفُتحت السفارات بينهما بعد قطيعةٍ دامت أكثر من نصف قرن، وقام الرئيس الأمريكي أوباما نفسه بزيارة رسمية لكوبا، وعادت حالة التطبيع لتسود العلاقات بين الدولتين، وتراجع اليسار، وتلقى ضربةً قاسية بهذه الخطوة في عقر داره.
وفي كولومبيا وَقّعت الحكومة الكولومبية الموالية لأمريكا اتفاقية سلام شاملة مع منظمة فارك الماركسية اليسارية بعد قرابة النصف قرن من اندلاع الحرب الأهلية بين الطرفين، والتي راح ضحيتها قرابة الـ 220 ألف قتيل و 6 ملايين نازح، وانتهى بذلك التوقيع تأثير اليسار الاشتراكي القوي على المجتمع الكولومبي.
وفي البرازيل تمّ الإطاحة الأسبوع الماضي بالرئيسة اليسارية ديلما روسيف واستبدل بها نائبها ميشيل تامر اليميني الرأسمالي المقرب من الأمريكان، ووافق البرلمان على إجراء التحقيق معها بتهم الفساد، ومن غير المتوقع عودتها إلى الحكم بعد انتهاء التحقيق معها.
لقد تمكّن هوجو تشافيز الرئيس الفنزويلي الراحل في نهاية فترة حكمه - والذي كان يملك قدرات خطابية وكاريزما جذّابة - من فرض نسب مالية أعلى على الشركات الأمريكية العاملة في فنزويلا، واتخذ سياسات عدائية لأمريكا في شتّى المجالات، وتمكّن من إنشاء تحالف يساري اشتراكي (بوليفاري) - نسبة إلى بوليفار وهو قائد لاتيني وقف ضد الأطماع الأمريكية في القرن الماضي - واستطاع جمع جميع الدول اليسارية في أمريكا اللاتينية في تجمع سُمّي (ألبا) لمناهضة المصالح الأمريكية الاستعمارية في دول القارة الأمريكية الجنوبية.
ومن جهته سعى الرئيس البرازيلي الأسبق لولا دي سلفا إلى إنشاء علاقات تعاون (جنوب – جنوب) بين أمريكا الجنوبية وأفريقيا والدول العربية والآسيوية بعيداً عن تدخلات أمريكا والدول الكبرى الاستعمارية، وشارك في تأسيس مجموعة دول البريكس المؤلفة من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لكسر الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، مستغلاً صعود الاقتصاد البرازيلي وضخامته، والذي صُنف بأنّه السابع عالمياً، والذي يأتي ترتيبه مباشرةً بعد الاقتصاديات الكبرى الستة، والتي تضم أمريكا والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا.
وقد شعرت أمريكا بالامتعاض الشديد من تصرفات هؤلاء الحكام اليساريين في أمريكا اللاتينية، وهي التي تعتبرها بمثابة حديقتها الخلفية، فقامت بمواجهة هذه التصرفات بأعمال اقتصادية وسياسية، وبتطويق هذه الدول بتحالفات اقتصادية جديدة مع الدول الآسيوية، وتوثيق رباطها معها، وإبعادها عن مشاركة الدول اللاتينية بتكتلات منفصلة عنها، وقامت بمحاولة عزلها اقتصادياً على كل الجبهات، ووضعت القيود والعراقيل الاقتصادية أمامها للحيلولة دون جعلها تستفيد من السوق العالمية التي تُهيمن عليها أمريكا.
فانكفأت هذه الدول على نفسها، ولم تجد لها شركاء اقتصاديين حقيقيين تتكامل معهم اقتصادياً بسبب هذه الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، وفشلت كذلك مجموعة البريكس في تحقيق أهدافها بسبب ارتباط الصين وهي الدولة الرئيسية فيها بالاقتصاد الأمريكي.
وأخيراً عملت أمريكا من خلال السعودية ومنظمة الأوبك على إبقاء أسعار النفط منخفضة ممّا أدّى إلى ضرب الاقتصاد الفنزويلي الذي يعتمد كلياً على النفط، وهو ما تسبّب في خلخلة الوضع السياسي فيها، وفقدانها بالتالي القدرة على التأثير في سائر الدول اللاتينية.
لقد تدهور الاقتصاد الفنزويلي بشكل خطير، فتفاقمت المشاكل الاقتصادية في فنزويلا بدرجة غير مسبوقة، وبلغت نسبة التضخم فيها إلى حدود الـ 200 % وتراجع الناتج المحلي الفنزويلي بنسبة 5.7 % لعامين متتاليين، وانخفضت قيمة العملة إلى أقل من 10%، ونقصت المواد الغذائية والأدوية في الأسواق، وانقطع التيار الكهربائي باستمرار، واندلعت الاضطرابات وأعمال الشغب، وصاحبتها أعمال سلب ونهب، واضطر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى إعلان حالة الطوارئ لمدة ستين يوماً، ونزلت القوات العسكرية إلى الشوارع لقمع تظاهرات الساخطين الذين تقودهم المعارضة المسيطرة على البرلمان، واتّهم مادورو واشنطن بوقوفها وراء الأحداث فقال: "إنّ واشنطن تفعل الإجراءات بناء على طلب اليمين الفاشي الفنزويلي الذي شجّعه الانقلاب الذي حصل في البرازيل"، وقام الجيش الفنزويلي بمناورات عسكرية خوفاً من انقلاب عسكري تقوم به المعارضة لإسقاط مادورو من الحكم بمساعدة أمريكا.
وقال مسؤولون أمريكيون في المخابرات الأمريكية: "إنّ الولايات المتحدة تشعر بقلق متزايد من احتمال حدوث انهيار اقتصادي وشيك في فنزويلا، ويدفع لذلك مخاوف من التخلف عن سداد الديون وزيادة الاحتجاجات في الشوارع والتدهور في قطاع النفط الحيوي في البلاد".
إنّ أمريكا تعمل بكل السبل لمنع دول أمريكا اللاتينية من نيل الاستقلال السياسي والاقتصادي الكامل، فهي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من منظومتها الجيوسياسية، وهي منذ مبدأ مونرو الذي أصدرته عام 1825م تتعامل مع أمريكا اللاتينية بوصفها حديقتها الخلفية التي لا تسمح لأحد بالعبث بها سواها، كما أنّها تعمل دائماً على إبقائها تحت جناحها بكافة الأساليب.
لقد كانت أمريكا في الماضي تعتمد على العسكر وعلى الأنظمة البوليسية في الحفاظ على نفوذها، وقد ثبت أنّ جميع الانقلابات التي وقعت في دول أمريكا اللاتينية في السابق كانت بتدبير من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
لكنّها اليوم غيّرت أساليبها في التعامل مع دول أمريكا اللاتينية، وأصبحت تعتمد على السياسات الاقتصادية، والعملاء السياسيين، لأنّه لم يعد مقبولاً التعامل مع الدول في القرن الحادي والعشرين الميلادي بأساليب القرن العشربن، وقد ردّ الرئيس الأمريكي باراك أوباما على اتهامات الساسة اللاتينيين لأمريكا بأنّها تسعى لتدبير الانقلابات في القارة الأمريكية بالقول: "إنّ بلاده تعلمّت الدرس من أخطاء الماضي"، وطمأنهم بأنّ بلاده لم تعد الدولة نفسها التي دبّرت انقلابات بالجملة في دول مختلفة بالقارة الأمريكية الجنوبية.
إنّ أهم أسباب الانحسار اليساري الاشتراكي في دول أمريكا اللاتينية لا يعود إلى قوة أمريكا، ولا إلى صحة المبدأ الرأسمالي الذي تنتهجه، وإنّما يعود إلى فشل المذاهب الاشتراكية في أن تكون بديلاً عن النموذج الرأسمالي المتغوّل في العالم، فهذه المذاهب إنّما جاءت في الأصل كترقيعات للعيوب الرأسمالية الكثيرة، وللتغطية على قصورها في تلبية حاجات الشرائح الضعيفة في المجتمعات، فهذا النوع من الاشتراكية لا يملك فكرة كلية يستند إليها، لأنّه خليط مهجّن من الرأسمالية والاشتراكية، ولا تكفي العواطف والحماسة في إسقاط النظام الرأسمالي العالمي المهيمن منذ قرون على الاقتصاد العالمي، وبما أنّ الشيوعية نفسها قد فشلت في مواجهة الرأسمالية، فمن بابٍ أولى أنْ تفشل فكرة اشتراكية الدولة التي حاولت دول أمريكا اللاتينية تطبيقها، لأنّ هذه الفكرة في الأصل خرجت من رحم الرأسمالية لمواجهة الشيوعية، فهي ليست فكرة مستقلة قائمة بذاتها، ولا فكرة مبدئية تنبثق عن عقيدة كلية، لذلك كان فشلها في مواجهة الرأسمالية المتوحشة مسألةً محسومة.
إنّ الفكرة الإسلامية هي الوحيدة القادرة على هزيمة الفكرة الرأسمالية وإزالتها من الوجود، وقادرة بالتالي على إزالة جميع آثارها ومضارها ومظالمها.
رأيك في الموضوع