إن السياسي الواعي المتتبع لما يجري في جنوب السودان، يعلم جذور القضية، ويعرف اللاعبين الأساسيين على مسرح الأحداث، فبريطانيا التي كانت تستعمر السودان، شماله وجنوبه، عملت في خطوات جادة لفصل جنوب السودان عن طريق ما يسمى بالمناطق المقفولة، وفرض اللغة الإنجليزية في جنوب السودان عبر الإرساليات التبشيرية التي حاولت جعل جنوب السودان منطقة نصرانية خالصة، إلا أنهم فشلوا في ذلك لاعتبارات عدة؛ منها أن الغالبية من أهل الجنوب كانوا ينظرون للنصرانية باعتبارها ديناً للبيض، كما أن كثيرا من أحكام النصرانية تتعارض مع موروثاتهم، وخاصة فيما يتعلق بالزواج وغير ذلك، فلجأت إلى إثارة النعرة العنصرية، وتصوير أهل الشمال بأنهم تجار رقيق، ينظرون لأهل الجنوب كأنهم عبيد، وركزوا مثل هذه الأقاويل الباطلة في أذهان الطبقة المثقفة من أهل الجنوب، الذين درسوهم في مدارسهم وغذوهم بالحقد تجاه أهل الشمال، ومن ثم حملوهم على القيام بالتمرد ضد أول نظام "وطني"، بل حتى قبل إعلان ما يسمى الاستقلال في كانون الثاني/يناير 1956م.
ظلت حركات التمرد هذه تُمَدُّ من قبل أوروبا وبخاصة بريطانيا حتى أخذ رجال أمريكا الحكم في السودان عن طريق انقلاب جعفر نميري في عام 1969م؛ الذي استطاع أن يقضي على حركة التمرد عن طريق اتفاق أديس أبابا سنة 1972م، فيقضي بذلك على نفوذ بريطانيا في الجنوب، لتنشئ أمريكا حركة جديدة بقيادة جون قرنق، لأن فكرة فصل جنوب السودان قد تبنتها أمريكا، وهي تندرج تحت فكرة استعمارية غربية (فرق تسد)، وكان ذلك في العام 1983م، وحاولت بريطانيا أن يكون لها رجال في هذه الحركة لكي لا تنفرد أمريكا بالسودان شمالاً وجنوباً، فاختارت (رياك مشار) الذي كان في هذه الفترة مبعوثاً من جامعة الخرطوم لتحضير الدكتوراة في الهندسة الصناعية والتخطيط الاستراتيجي لينضم إلى حركة قرنق منذ تأسيسها.
وقد حدث بين قرنق ومشار صراع واقتتال، فانفصل مشار عن الحركة في عام 1991م، وكان قرنق يتهم مشار بالعمالة للإنجليز، وأن زوجة مشار (إيما ماكوين) كانت إنجليزية، وكانت تعمل تحت غطاء منظمة إغاثية إنجليزية، بل سمى الحرب التي دارت بينه وبين مشار بحرب (إيما)، وقد قتلت إيما هذه في العام 1993م في نيروبي في حادث مروع.
حاول مشار أن يشق طريقه في الانفصال بعيداً عن قرنق، فأجرى مباحثات مع حكومة البشير، وعقد معها اتفاقاً في العام 1997م، إلا أنه لم ينجح، وظل فريق قرنق هو الأقوى تأثيراً في أرض الواقع، فأوعزت بريطانيا لمشار أن يعود مرة أخرى للحركة الشعبية بقيادة قرنق، فوافقت أمريكا على عودته لسببين:
الأول: الثقل القبلي الذي يمثله مشار (قبيلة النوير) وهي تعتبر من أشرس القبائل في الجنوب.
والسبب الثاني: هو احتواء مشار وضبطه تحت قيادة أمريكا، وبالرغم من ذلك ظل الخلاف بينهما هو الطاغي، وبخاصة عندما لم يعين قرنق مشار نائباً له، بل عين سلفاكير الذي كان أقل رتبة منه في الحركة.
وعندما نجحت أمريكا في فصل جنوب السودان عبر اتفاقية الشؤم نيفاشا، وتم إعلان جنوب السودان دولة مستقلة في 9 تموز/يوليو 2011م، وأصبح سلفاكير رئيساً للدويلة الوليدة، تم تعيين مشار نائباً له، إلا أن الصراع الأمريكي الإنجليزي ظهر على السطح عبر الرجلين، حيث اندلعت - بعد أقل من عام ونصف - الحرب بينهما، وظلت ظلال هذه الحرب بآثارها الكارثية على الناس حتى هذه اللحظة، مما أربك حسابات أمريكا؛ التي كان فصل جنوب السودان من أهم إنجازاتها في عهد أوباما، وهي لا تريد أن تخسر ما صنعته في جنوب السودان بعد فترة وجيزة، لذلك فهي حريصة على بقاء سلفاكير بأي ثمن، مما حدا بها لأن توعز إلى عملائها في المنطقة للوقوف بجانبه، مثل السودان وإثيوبيا وأوغندا؛ التي تدخلت عسكرياً في الجنوب، بالإضافة إلى الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، إلا أن الأمور حتى هذه اللحظة لم تعد تحت السيطرة الكاملة لأمريكا، رغم كل الدعم المقدم لسلفاكير عسكرياً ولوجستياً، فما زال القتال هو سيد الموقف، وما زال الموت والنزوح واللجوء هو ما يصيب أهل الجنوب المغلوبين على أمرهم. فقد فشلت كل محاولات الحل الوسط حتى إن الأمين العام للأمم المتحدة هدد في 30 نيسان/أبريل 2015م زعماء جنوب السودان بعقوبات إن لم يُبدوا استعدادهم للتوصل إلى حل وسط في محادثات السلام.
فالناظر إلى هذا الصراع يوقن أنه لن ينتهي على خير، ما دام هو صراع كبار المستعمرين، القدامى والجدد، وما مشار أو سلفاكير أو غيرهما إلا أدوات كما هي حكومة السودان الحالية أداة استطاعت عبرها أمريكا أن تنفذ مخططها الخبيث في فصل جنوب السودان، وتهيئة بقية أقاليمه للتفتيت والتمزيق.
إن الحل لصراع جنوب السودان هو بعودته جزءاً من السودان، فإن الجنوب لن يستطيع البقاء حياً لوحده إلا إذا كان جزءاً من بلاد السودان، وكذلك الشمال لن تقوم له قائمة إلا إذا كان الجنوب جزءا منه، كما كان من قبل، بل إن الحل الجذري هو بعودة السودان، جنوبه وشماله جزءاً من دولة الإسلام؛ دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ التي توجد للسودان وغيره حياة ليس فيها مستعمر حاقد يسعى لزرع الفتنة بين الناس، وأخذ ثرواتهم بلا مقابل، بل إحسان الرعاية.
رأيك في الموضوع