عندما تكون للظالمين الغلبة على أهل الحق، فيفرضون باطلهم بالبطش وقوة الحديد، كما تفعل الدول الغربية ببلاد الإسلام اليوم، ينصبون السفهاء حكاماً، ويحرصون على نشر الفساد والخلاعة باسم الديمقراطية والحرية مثل دعوتهم للشذوذ والردة عن الإسلام، وتدمير الأسرة تحت شعار إعطاء الحرية للمرأة والطفل كما تهدف اتفاقيات سيداو وما شابهها، فيتواطأ الإعلام المأجور في نقل هذه التفاهات للناس وتلميع دعاتها الساقطين، فيؤثر هذا الواقع على بعض حملة الدعوة الحق، فيتوهم بعض الذين يحملون دعوة الحق لإقامة شرع الله سبحانه في الأرض أن هناك خطأ ما في دعوتهم لذلك لم يتنزل عليهم نصر الله تعالى، وقد يذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك فيدعون إلى تقديم تنازلات توهماً أن هناك جموداً في دعوتهم، أو إلى تعديل المنهج الذي تبنوه واجتمعوا عليه ليحققوا التغيير على أساس دينهم وعقيدتهم، فتضعف عزائمهم ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة فيما يحملون من منهج صحيح مستند على أساس متين من وحي الله سبحانه وشرعه الحكيم.
إن مسألة تعجيل النصر أو تأجيله ليست دليلاً على صحة المنهج الذي يحمله من يبتغي التغيير على أساس دين الله تعالى، أو فساد هذا المنهج، فاستبطاء النصر يمكن أن يُصاب به أحب العباد إلى الله تعالى؛ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهو ابتلاء واختبار يمحص الله به من يشاء من عباده، وقد جاءت آيات الرحمن سبحانه تؤكد ذلك، فقد قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾. فها هو نبي الله نوح عليه السلام يدعو قومه فترة طويلة، فكذبوه، وسخروا منه، وأساؤوا إلى أتباعه وتحدوه، وظل في هذا الابتلاء ألف سنة إلا خمسين، يجتهد في حمل دعوته بأقصى طاقة وأقصى قوة لا يكل ولا يمل، فلم يؤمن به إلا قلة، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾. وبرغم ذلك لم يتسرب إلى نفسه أن منهجه فاسد أو أنه على خطأ لذلك لم يستجب الناس له... والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما استعجال النصر عندما يعمُّ البلاء ويكثر الشقاء فهو فطرة بشرية لعدم تحمل الإنسان طول البلاء إلا من رحم الله تعالى، ولأن البلاء يوهن العزيمة ويضعف النشاط من جانب، ويقوي شيعة الباطل من جانب آخر فيتوهمون أنهم على حق فيزيد أذاهم وتجبرهم على حملة الحق، فيزداد البلاء عليهم فيستعجلون النصر، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: «شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» البخاري.
أمة الإسلام تعيش اليوم هذا الواقع من البلاء، عندما هُدمت دولتها؛ الخلافة، واحتل الكافر بلادها، صارت هذه البلاد الطيبة كأنها سجن كبير يحارب فيها الكفار وأعوانهم دين الله تعالى، ويجاهر فيها بالمعاصي، ويتسيّد فيها أتفه الخلق، عملاء الكافرين من حكام؛ عسكر وسياسيين، ومفكرين وإعلاميين...إلخ، وأصبحت الثقافة السائدة هي ثقافة الكافر المستعمر في نواحي الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع...إلخ. ولقد أعجبتني كلمات صاحب تفسير الظلال عن آيات سورة الحج التي تصور هذا الواقع، والتي قال فيها: "قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات. فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً!.. وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.. وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً. فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.. وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة. فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار. فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه! من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام. مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية. وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾".
في هذه اللحظة التاريخية فليتيقن العاملون لإقامة الإسلام في الأرض عبر دولته الخلافة، أن المنهج الذي يحملونه هو الوحيد القادر على التغيير لأنه جعل العقيدة الإسلامية أساسا والحكم الشرعي مقياسا، ولأن أحكامه ومعالجاته للقضايا المتجددة مستنبطة باجتهاد صحيح في الأصول والفروع من وحي الله تعالى، وأن هذه المرحلة مع الإيمان والثقة في المنهج تحتاج إلى الثبات ليكرمنا الله تعالى بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
يتبع...
* مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع