لكل أمة أو شعب قضية تشغل تفكيره، وتلتفت لها الأنظار، وتكون حديث الناس، وملتقى تفكيرهم في مجالسهم، ومركز التنبه عندهم. وأمة الإسلام شأنها شأن بقية الأمم، لها قضية سياسية تتجه إليها الأنظار، فما هي القضية السياسية أولا؟ وما هي قضية المسلمين السياسية؟
القضية السياسية:
كثيرًا ما نسمع قائلاً يقول: إن هذه "قضية سياسية" بمعنى أنها أصبحت تشغل الرأي العام لدى الأمة، وأصبحت محل بحث ونقاش، وعمل وتحرك، وهذه القضية تشغل الأنظمة والحركات، والشعوب والأفراد. هكذا الأصل، فمثلا قضية إيرلندا قضية سياسية في بريطانيا. واحتلال أمريكا للعراق وأفغانستان، وخروج الجيش الأمريكي منهما قضية سياسية أمريكية. والفراغ السياسي في لبنان قضية سياسية، فهي تفرض نفسها في كل محل تحل فيه، وتجذب لها الأنظار، وتحظى باحترام كبير. وقضية فلسطين قضية سياسية مثلا عاشت على وتر أنغامها أنظمة وحركات تفننت بها، ودول سمت نفسها زورا بدول المقاومة والممانعة، وكتبت فيها المقالات، وألِّفت فيها الكتب، ولا زالت تراوح مكانها، لا بل ازدادت تعقيدًا.
القضية السياسية للأمة الإسلامية:
مما لا شك فيه أن الأمة الإسلامية بوصفها أمة تعتنق الإسلام، فإن العقيدة الإسلامية هي التي تعيّن لها القضية السياسية... فالإسلام بالنسبة للأمة هو روحها، وسر حياتها، وهو عقيدتها وأحكام ربها جل جلاله، وهو المبدأ الذي ارتضاه الله لنا دينًا، قال تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]. والإسلام دين ومنه الدولة؛ وهو تضمّن أحكاما تعالج الواقع، وأحكاما للعلاقات الإنسانية كلها، فيه تبيان وتفصيل لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين. قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89]، وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]
والإسلام اليوم بلا دولة تطبقه داخليًا، وتحمله عن طريق الدعوة والجهاد خارجيًا؛ لذا كان الإسلام بلا دولة كجسد بلا روح، فالدولة في الإسلام هي طريقة تنفيذ المبدأ في الداخل، وتحمله بشكل لافت للنظر للأمم والشعوب بالدعوة والجهاد خارجيًا.
وطالما أن دولة الإسلام اليوم غير موجودة، حيث قضى عليها الكافر المستعمر بالتعاون مع خونة العرب والترك، فكانت القضية السياسية للأمة هي إعادة تلك الدولة، فهي قضية المسلمين السياسية، ولا قضية لهم غيرها، بل إن غيرها من أمور إنما هي مسائل متفرعة عنها أو آثار نتيجة غيابها. وللتدليل على هذا نقول: لقد حدد رب العالمين لرسول الله e قضيته السياسية بالعمل على إيجاد كيان سياسي للإسلام يطبقه ويحمله للعالم؛ ولما كانت هذه قضية الإسلام لم يلتفت رسول اللهe إلى قضية أخرى، بل جعل كل جهده وتفكيره لأجلها فقط، فما زاغت عنها عين، ولا تحرك حركة إلا بما تمليه عليه قضيته؛ حيث بدأ e يكتل من آمن بفكره للعمل على إقامة دولة الإسلام، حيث انتقل بين القبائل، وطلب النصرة، وتمت البيعة لإقامة حكم الله في الأرض، وانتقل من مكة إلى المدينة المنورة، وفرضت الهجرة، وتتالت الفتوحات والانتصارات، وحُلَّت باقي العقد والمشكلات، برغم وجود عدة مشاكل وقضايا في مكة، ومن مركز الدولة الفتية إلا أنه e بقي مصرًا على قضية العمل لإقامة دولة الإسلام مع أنه كان يدرك حجم التحديات في المدينة والعقبات إلا أنه لم يشتغل بها إلا بعد أن أصبح له سلطان وحكم.
لقد أدركت قريش قضية رسول الله e، فأرادت أن تحرفه عنها، أو أن تخترقها، أو تحوّل النظرة عنها، أو تعددها في وجه العاملين، فقد ورد في السيرة النبوية أن عتبة بن ربيعة قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام جالس في المسجد وحده: "يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلّمه، وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟". وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون، فقالوا: "بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه".
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: "يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقْت به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم كفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منا بعضها". فقال رسول الله: «قل يا أبا الوليد أسمع»، قال: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفًا سوَّدناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيًّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه".
حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله يستمع منه قال: «أقد فرغت يا أبا الوليد»؟ قال: نعم، قال: «فاسمع مني»، قال: أفعل، قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم تَنزِيلٌ مّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَبٌ فُصّلَتْ ءايَتُهُ قُرْءانا عَرَبِيّا لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرا وَنَذِيرا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [فصلت: 1-4]، ثم مضى رسول الله فيها يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة منه أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يستمع منه ثم انتهى رسول الله إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك». لا بل كان موقفه مع عمه أن قال له e: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
أرادت مكة أن تحول بين رسول الله وبين قضيته بعرض المال، أو الجاه والسلطان، أو العلاج، ولكن دون أن تكون السيادة لله، دون إقامة حكم الله، وإنما زعامة تنضم إلى الزعامات التقليدية، دون أن يكون للسماء حكم. إنه أشد ما يكون على حملة الدعوة أن تُخترق قضيتهم أو تتعدد أو تحوّل النظرة عنها، ولعل سائلا يسأل: وأين موقفكم من بقية العقد والقضايا؟ فنقول:
لقد تميزت القضية السياسية لدى الأمة بأنها قضية أساسية، وليست فرعية أو ناتجة عن أصل، بل هي أصل الأصل، ومكمن الداء، وغيرها من الأمور لا يقال في حقها: "قضايا" وإنما مسائل، فلا يقال مثلاً: "قضية فلسطين" أو "قضية كشمير"، أو "قضية نشر الدعوة"، أو "قضية الجهاد" لأن نشر الدعوة هو وظيفة الدولة، وليس وظيفة الحركات والأفراد - وإن كان مطلوبًا منهم أن يدعو - لكن الدعوة التي تبرئ الذمة هي عن طريق الدولة، ولا يقال: "قضية الجهاد"؛ لأن الجهاد جزء من السياسة الخارجية للدولة. ولا يقال: "قضية فلسطين"؛ لأن فلسطين ضاعت بضياع الخلافة.
أما بقية المسائل، ولا نقول: "قضايا" فهي لا تهمل، وإنما تطلب مواجهة وتحريك الأمة، وتنبيهها لمختلف المسائل، لكنها تبقى غير أساسية، وكما عمدت قريش إلى محاولة اختراق قضية الرسول e، حاول الغرب بل ونجح في جوانب كبيرة حين جعل المسائل قضايا، أبعدت الأمة، وأشغلتها عن قضيتها الأساسية، وأنتج الكفر حركات، وأحيانًا نتجت في الأمة حركات بدوافع ذاتية من أجل بعض المسائل، وكم بذلت جهود، وأنفقت أموال، وأزهقت أرواح، وسفكت دماء، لو كانت أو بذلت في سبيل قضية المسلمين السياسية لعلها أثمرت في وقت قريب!!
وختاما فإن واجب الأمة، والحزب المبدئي أن يكون موقفهم كموقف رسول الله eالثابت على قضيته مهما تعالت الأصوات، وادلهمت الخطوب، واشتدت الكروب، وهبت الرياح عاصفة، وتزلزلت الأرض، ونعق المثبطون، وشاب الأطفال من هول الأحداث، يبقى الرد: «والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
فإلى الثبات على قضية المسلمين السياسية، قضية إعادة الخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة ندعوكم أيها المسلمون، وندعو الأمة إليها، والثبات عليها، والتحرك لها، فما اشتد الظلام إلا لما اقترب الفجر، وما كثرت المؤامرات إلا لما شعر الكفر بدنو الأجل، وما سالت دماء إلا محاولة من أعداء الله للصد عن سبيل الله، ولكن هيهات هيهات قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّـهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: 36-37]
رأيك في الموضوع