كثير من بلاد المسلمين إن لم يكن كلها تحتفل سنويا بيوم خاص في السنة يسمونه يوما وطنيا أو يوم الدولة أو يوم الاستقلال وهذا اليوم يؤرخ ليوم "خروج المستعمر" من هذه البلاد وحصولها على ما يسمي الاستقلال! فهل هذا الاستقلال حقيقي؟ وهل خرج المستعمر من بلادنا حقاً؟ وماذا يعني الاستعمار السياسي؟
يعود تاريخ الاستعمار في بلادنا إلى بدايات القرن التاسع عشر وقبل ذلك بكثير لبلاد إسلامية أخرى كالهند التي استعمرتها بريطانيا في القرن السابع عشر وبدأته بإنشاء شركة الهند الشرقية. والملاحظ هنا أن الدول التي أوجدت ومارست الاستعمار بمفهوم احتلال الدول الأخرى ونهب ثرواتها وحكمها حكما مباشرا كانت دولاً أوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا تليها البرتغال وألمانيا وهولندا وإيطاليا، والملاحظة الثانية متعلقة بالزمن؛ فقد بدأ الاستعمار بعد حركة الإصلاح الديني في أوروبا (فصل الدين عن الحياة) وانطلاق عجلة الصناعة فيما سمي بالثورة الصناعية، أي بمعنى آخر بعد ظهور وتبلور الرأسمالية كما نعرفها، فالاستعمار والرأسمالية صنوان لا ينفصلان فلا يمكن من ناحيةٍ فرض وتطبيق الرأسمالية بأفكارها ومفاهيمها إلا بالاستعمار ولا يمكن من ناحية أخرى تشغيل عجلة الإنتاج الصناعي إلا بنهب ثروات البلاد عن طريق الاستعمار وهذا ما كان وما حصل تاريخياً، فجاءت هذه الدول بجيوشها واحتلت بلادنا لضعف فينا وفي نظامنا السياسي فاحتلت الجزائر ومصر وتونس والمغرب العربي وبعد الحرب العالمية الأولى قسمت بلاد الشام والعراق فيما سمي باتفاقية سايكس - بيكو بين بريطانيا وفرنسا.
وهذا الشكل من الاستعمار (الاحتلال العسكري) مكلف وباهظ التكاليف للمستعمر فهو بحاجة لقوة بشرية كبيرة قد لا تتوفر له، وأموال لتغطية مصاريفه الباهظة، وبحاجة لوجود دائم في تلك البلاد بالإضافة للمقاومة الشرسة من المخلصين من أهل البلاد فكان لا بد لهذه الدول وبعد تفكير خبيث أن تغير من أساليبها ووسائلها، فبدأت بصناعة أوساط سياسية واقتصادية ودينية وغيرها من أهل البلاد وبدأت بتلميعهم وصقلهم وفرضهم على مفاصل تلك الدول، وما حصل في مصر والشام وصناعة مصطفى كمال في تركيا دليل على ذلك؛ فخرج الاستعمار بجيوشه من تلك البلاد بعد أن مكن صنائعه منها؛ فهدمت الخلافة الإسلامية في تركيا على يد صنيعة بريطانيا مصطفى كمال وسلمت باقي البلاد لأعوانهم وصنائعهم في كل البلاد من الخليج وحتى المغرب بلا استثناء، فكل القيادات ارتبطت بشكل أو بآخر بالغرب وأصبحوا يستمدون شرعية وجودهم في الحكم من الغرب، وكبلت البلاد كلها باتفاقيات اقتصادية وقروض واتفاقيات وأحلاف عسكرية، فخرج الاستعمار بجيوشه وبقي بنفوذه وأعوانه وعملائه.
ونتيجة للصراع الطبيعي في داخل المبدأ الرأسمالي ودوله ولضعف الدول الاستعمارية الأوروبية خاصة بعد حربين كونيتين استطاعت أمريكا بقوتها وأعمالها السياسية أن تقصي بريطانيا وفرنسا عن كثير من مناطق نفوذهما في الدول التي استعمرتها سابقا، فخرجت تركيا وإيران من نفوذ بريطانيا إلى النفوذ الأمريكي ونافستهما في إفريقيا وغيرها من البلاد.
وفي جانب آخر ما زالت مناهجنا التعليمية في المدارس والجامعات ومعاملاتنا الاقتصادية والتجارية وعلاقاتنا الدولية بل وحتى المشاكل والقضايا البينية في بلاد المسلمين مرجعيتها والفصل فيها للغرب ودوله، فوزراؤهم وسفراؤهم يتدخلون بكل صغيرة وكبيرة في بلادنا وآذان وقلوب حكامنا ومسؤولينا تهوي إليهم وتصغي لهم وتنفذ أوامرهم وطلباتهم.
وبناء على ما سبق فالصراع قائم بين هذه الدول لطبيعة المبدأ الرأسمالي الذي تعتنقه هذه الدول، فالكل يسعى لبسط نفوذه إن استطاع على بلادنا لنهب ثرواتنا وحرفنا عن الحل الصحيح لمشاكلنا وقضايانا، وهذه الكيانات القائمة في بلادنا ما وجدت إلا لخدمة الغرب ومشاريعه ومن الغباء والحمق السياسي أن يظن ظان أن هذه الدول والكيانات المرتبطة بالغرب ارتباطا عضويا يمكن أن تمتلك مشروعا سياسيا أو اقتصاديا خاصا بها لخدمة أهل البلاد، منفصلا ومستقلاً عن الأسياد، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن نصدق أن هناك مشاريع عربية أو إقليمية لحل مشاكلنا وقضايانا دون أن يكون فيها إصبع لدول الكفر، فكل ما يطرح من مشاريع ما هي إلا مشاريع غربية تطرح أحيانا بأيدٍ عربية وأحيانا كثيرة تفرض مباشرة من الغرب أو من أدواته كالأمم المتحدة وقراراتها أو صندوق النقد الدولي وتوأمه البنك الدولي وغيرها من الأدوات.
فقضية فلسطين مشروع حلها - هذا إذا نجح - أمريكي، وما يطرح من مشاريع وخطط لوأد ثورة الشام وإعادة صياغة المنطقة من جديد وما يحدث في اليمن وليبيا ومصر ننتظر حله من أمريكا والغرب، ونفطنا وثرواتنا بيد شركات غربية عالمية إنتاجاً وتسويقاً وتسعيراً...
لكل ذلك يجب العمل على كشف وفضح كل العلاقات والمؤامرات بين الأنظمة القائمة في بلادنا ودول الغرب الاستعمارية والتي ما زالت حتى الآن الآمر الناهي في بلادنا، وأي عمل سياسي لا يضع نصب عينيه فضح وقطع هذا الحبل السري بين الأنظمة والمستعمر وقطع يد هذا المستعمر الذي يتدخل في قضايانا وشؤوننا، فإنه إما أن يكون غير مؤثر أو خادما لسياسات الدول الاستعمارية.. فبدون قطع ذلك الحبل السري سيبقى المستعمر صاحب الوصاية وتبقى هذه الأنظمة التي أوجدها ورعاها المستعمر حجر عثرة في طريق نهضة الأمة وعودتها لسابق عزها ومجدها بتطبيق شرع الله كما أمر؛ فشرعية وجود هذه الأنظمة مرتبطة بالغرب، وكذلك الأوساط التي أوجدها والفكر الرأسمالي وديمقراطيته المزعومة التي فرضها على الأمة.
رأيك في الموضوع