إن أخطر ما تتركه الحركات الإسلامية التي وصلت للحكم ثم أخفقت في إدارة شئونه هو ضرب ثقة الناس بالإسلام وحركاته وأحزابه، فالناس تربط بين الإسلام عقيدة ونظام حياة، وبين كون هذه الحركات لا تستطيع إدارة شؤون الحكم إلا إذا استعانت بتشريعات وقوانين علمانية، وحينها يظن الناس أن الإسلام لا نظام حكم فيه يشمل الاقتصاد والاجتماع والسياسة الداخلية والسياسة الخارجية... والتجارب الصبيانية في الحكم في كل من مصر وتونس أظهرت هذه الحركات التي صدّعت رؤوسنا منذ ما يقارب قرنا من الزمان بعبارة "الإسلام هو الحل" حتى ظن الناس أن وصول هؤلاء إلى الحكم سيجعل السماء تمطر عليهم ذهبا وستملأ الأرض عدلا بعدما ملئت جورا، وإذا بهم لا يدركون كيف يكون شكل الحكم ما اضطرهم للاستعانة برجالات الحكم السابق بل والإبقاء على النظام بدستوره وكل قوانينه وتشريعاته، وكان الفرق مجرد تغيير وجوه ليس أكثر، بمعنى أن هذه الحركات لم تكن أكثر من مساحيق تجميل للنظام بحيث تلبسه حلة جديدة فتكون أشبه بمن يديم أمد النظام ويطيل عمره ويؤيده بطريقة غير مباشرة، بل وتجمله في عيون الناس، فالناس عندما يرون هذا الشكل الجديد بهذه الحلة الجديدة من المشايخ تظن أن هذا هو الإسلام، وأن الإسلام قاصر عن إدارة شؤون الناس والقيام بأعباء الحكم إلا إذا استعان بالغرب والشرق ورجال الحكم والطبقة السياسية السابقة التي قام عليها على ما يظهر للناس، وبهذا تكون هذه الحركات من حيث تدري أو لا تدري قد قدمت لأعداء الإسلام خدمة جليلة بإظهارها الإسلام قاصرا عن الشأن السياسي وبأنه لا سياسة فيه.
إن النبي عليه الصلاه والسلام لما وصل المدينة المنورة بعد أخذ النصرة من أهلها كتب وثيقة المدينة، وكانت تلك الوثيقة هي أول دستور مكتوب في تاريخ الدنيا وما ذلك إلا لأن الدستور هو القانون العام للدولة، فهو الذي يبين شكل الدولة ومصادر التشريعات فيها، وهو الذي يبين نظام الحكم، وما إذا كانت هذه الحركة جاهزة فعلا لجعل الإسلام وحده هو النظام كله بتشريعاته وقوانينه، فالرسول عليه الصلاه والسلام وصل المدينة حاكما فوق كونه نبيا ورسولا فلم يستعن بنظام الحكم السابق قبله ولا قَبِل منهم تشريعا أو قانوناً بل لم يسأل عنه، ولم يخاطب في دستوره المجتمع الدولي ليرضيه بل إنه خاطب المجتمع الدولي بعد ذلك بخطاب عزٍ لا ذل فيه «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى (فُلَانٍ وَفُلَانٍ)... أَسْلِمْ تَسْلَمْ»، لم يسأل عنه ولم يخاطب في دستوره المجتمع الدولي ليرضيه بل إنه لم يلق بالاً لمجتمع المدينة ليجعل منهم حكومة تشاركية أو تصالحية، ولكنه بدل ذلك وضع دستورا ليسير الجميع عليه وكان مما جاء فيه: «وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ... وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ ﷺ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ» فالجدية تقتضي أن يكون الحكم لله وحده، وهذا وحده هو الذي يضع الإسلام كله موضع التطبيق والتنفيذ وفيه وحده نستطيع القول إن هذه الحركة أو تلك جادة وحريصة على إيصال الإسلام إلى الحكم، أما مراعاة القوانين الدولية والشرعة الدولية فوق كونه مستحيلا فإنه لن يوصل الإسلام إلى الحكم كنظام حياة وطريقة عيش.
إن ما يظنه بعضهم من أن إمساك العصا من المنتصف هو من السياسة، لا حظّ له من النظر وهو حرام وانتحار سياسي؛ فالكافر لن يرضى عن هذه الحركة أو تلك مهما قدمت من تنازلات، ومصر وتونس أكبر شاهد على ما نقول؛ فبالرغم من أن ما تسمى حركات إسلامية قد انسلخت من الإسلام بأحكامه وتشريعاته بل وزاودت على الغرب في قبول شرعته وتشريعاته في كل شيء، إلا أن من أوصلها إلى الحكم انقلب عليها ولفظها كما تلفظ النواة! ولو أن هؤلاء وقفوا قليلا عند قوله سبحانه ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ لكان أحْسَنَ فهم المعادلة جيدا ولكنه أبى إلا أن يركن إلى الغرب وأدواته.
إن الباعث على هذا المقال هو حالة التخبط التي وقعت فيها طالبان بعد تسلمها أفغانستان من جديد، فبالرغم مما أبلته في أفغانستان من بلاء حسن ووقفت طوال عقدين من السنين ضد أعتى قوة في العالم فمرغت أنف أمريكا ودول الكفر في التراب وأخرجتها من أفغانستان مذؤومة مدحورة إلا أنها عادت لتكرر غلطتها نفسها عندما حكمت أفغانستان قبل ربع قرن! إذ إنها ما زالت تصر على تسمية أفغانستان إمارة إسلامية وكأن الأمة لم تكتو بنار سايكس بيكو والتقسيمات القُطرية بعد! بل وأضافت فوق ذلك أنها تريد الاستعانة برجالات الحكم السابق الذي قاتلته لسنوات عدة! بل إنها بدأت ترسل الرسائل للعالم بخطاب تطمينات لعل العالم يرضى عنها! فهي تخاطب الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية، وقد كان مما اتفقت عليه قبل ذلك مع أمريكا أن أفغانستان لن تكون منطلقا لأية أعمال عدائية ضد دول الجوار، وهي بهذا ترسخ تقسيم بلاد المسلمين وتمنع من نصرتهم إذا استنصروا بها.
إن دين الله لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، وإن أي حركة أو حزب يريد الوصول للحكم أو وصل للحكم مثل ما حصل مع طالبان في أفغانستان لا بد أن يكون سنده طبيعيا، وليس السند ذلك إلا الأمة الإسلامية، فالرأي العام فيها عن الإسلام المنبثق عن وعي عام هو ضمانة طبيعية لنظام الحكم، وغير ذلك فإن طالبان أو غيرها ستقع في شرك المجتمع الدولي وحبائل القوانين الدولية وهذا لا يرضيه إلا أن تكون الدولة الإسلامية وهُوَ في العلمانية سواء، ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً﴾، وإن حزب التحرير قد عرض نفسه وفكرته وخبرته وما زال على حركة طالبان حتى يقيلها من عثرتها ويعينها ويستعين بها، فهم إخواننا ونحن إخوانهم، فقد كان يجب عليهم وهم أهل قوة ومنعة أن يصنعوا كما صنع الأوس والخزرج مع رسول الله ﷺ، بأن يعطوا النصرة لحزب التحرير فهو القادر على فهم ألاعيب الغرب وما يكيده لهذه الأمة من مؤامرات، أو كان على أقل تقدير يجب عليهم أن يستعينوا بالحزب فهو بين أيديهم وهم يعرفونه جيدا، فَهَمُّ الحزب أولا وآخرا أن يوصل الإسلام إلى الحكم ويستأنف الحياة الإسلامية، فإن حصل ذلك به فهو الخير إن شاء الله وإن حصل بغيره فهو خير أيضا وسيكون له ناصرا ومعينا، وما زلنا نوجه نصيحتنا لإخواننا في أفغانستان في حركة طالبان كما وجهناها زمن الملا عمر رحمه الله: أن الغرب لا يهزه ولا يسفه أحلامه إلا الخلافة لأنها نظام الحكم في الإسلام مقابل نظام الكفر، وأنها طريقة عيش مقابل طريقة عيشه، وهو يخشى منها ويحاول إبعادها عن النظر والتطبيق، وهو لا يلقي بالا كثيرا لإمارة إسلامية تطبق الحدود داخل الحدود ولا يتعدى نظام الإسلام فيها إلى غيره لأنه يخاف أن يُحمل الإسلام إلى خارج أفغانستان بالدعوه والجهاد، هذا ما يرعبه وهذا ما يحاول جاهدا إبعاده، فلا تكونوا عونا له على الأمة، وإذا كان الله قد أكرمكم بنصره على غطرسة أمريكا والغرب فاجعلوهما أثرا بعد عين ولا يتوقف نصركم عند حدود دولة قطرية تسمي نفسها إمارة أفغانستان بل حطموا هذه الحدود وأزيلوها وتمثلوا قول ربكم ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)
رأيك في الموضوع