لا يخفى على كل مسلم، ما للعلم من فضل، وما للعلماء من منزلة، وإنَّ هذه المنزلة من أسمى المنازل وأعلاها، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، وقال عز وجل: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ﴾، قال الإمام ابن جماعة رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآية: (بدأ سبحانه بنفسه وثنَّى بملائكته وثلَّث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفاً وفضلاً وجلالةً ونبلاً).
وقال رسول الله ﷺ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً، سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقاً إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضاً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» أخرجه مسلم، علق ابن القيم رحمه الله تعالى على قوله ﷺ: «وإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» بأن ذلك من أعظم المناقب لأهل العلم، وذلك لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم. ويقول سفيان بن عيينة رحمه الله: (أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء). وقال سهل التستري رحمه الله: (من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء، فلينظر إلى مجالس العلماء، فاعرفوا لهم ذلك)، والعلماء الرَّبانيون هم النُّجوم المضيئةُ في سماء هذا العالم؛ فبهم يهتدي النَّاسُ في مساربِ هذه الحياةِ؛ فإذا غابوا أو غُيِّبوا سادَ الظلامُ الدَّامسُ أرجاء الأرض، وتخبَّطَ الخلقُ في دياجيرِ الظلمةِ؛ فلا يعرفونَ طريقاً، ولا يهتدونَ سبيلاً؛ كما قال أحدُ السلفِ: (مثل العلماء مثل النجوم التي يُهتدى بها، والأعلام التي يُقتدى بها، إذا تغيَّبتْ عنهم تحيَّروا، وإذا تركوها ضَلُّوا). وكُلَّما عصفتْ بالأُمَّةِ رياحُ الفتنِ العاتيةِ، وضَربتْ بها أعاصيرُ المحنِ القاسيةِ؛ عَظُمتْ الضَّرورةُ إلى هذا الطراز الفريدِ من أهل العلمِ، وصارتْ الأُمَّةُ في مسيس الحاجة إليهِ.
فهنيئنا لكم هذه المكانة العظيمة التي وهبها لكم رب العزة جل جلاله فيا لها من نعمة، ومن الخطأ الفادح أن نظن أن كل هذا الثناء والمدح على بلوغ هذه المنزلة بلا مقابل يقدمه العلماء ولا مشقة يجدونها في مكابدة الحياة الدنيا وتبليغ الحق. كلا، فإن عليهم في مقابل هذا الثناء والأجر العظيم والمكانة العليا، رسالة سامية يقدمونها للبشرية جمعاء.
نعم خص بهذا المدح العلماء الربانييون، الذين يصدعون بكلمة الحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم، وعملوا بمقتضى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، ولنا في صحابة رسول الله ﷺ والتابعين خير مثال، وإذا أردنا أن نحصي مواقف العلماء الأبرار ومواقفهم البطولية فقد نحتاج لمجلدات.
فقد ورد أن أبا جعفر المنصور استدعى العالم طاووساً، ومعه مالك بن أنس، فلما دخلا عليه، أطرق ساعة ثم التفت إلى طاووس، فقال له: حدثني عن أبيك يا طاووس، فقال: حدثني أبي أن رسول الله ﷺ قال: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله«. فأمسك ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني من دمه، ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا طاووس، قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾، قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأني من دمه. فأمسك عنه ثم قال: ناولني الدواة، فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا وبينه، ثم قال: يا طاووس، ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ فقال: أخشى أن تكتب بها معصية لله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. قال طاووس: ذلك ما كنا نبغ منذ اليوم. قال مالك: فما زلت أعرف لطاووس فضله. (تذكرة الحفاظ 1/160. وفيات الأعيان 2/511).
ورد أنه قد جيء بحطيط الزيات إلى الحجاج، فلما دخل عليه قال: أنت حطيط. قال: نعم. قال حطيط: سل عمّا بدا لك، فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال الحجاج: فما تقول فيّ؟ قال: أقول فيك إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال: أقول إنه أعظم جرماً منك، وإنما أنت خطيئة من خطاياه. فأمر الحجاج أن يضعوا عليه العذاب، فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب، ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة، حتى انتحلوا لحمه، فما سمعوه يقول شيئا، فقيل للحجاج إنه في آخر رمق. فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر (وهو الراوي): فأتيته أنا وصاحب له، فقلنا له: يا حطيط ألك حاجة؟ قال: شربة ماء. فأتوه بشربة ثم استشهد، وكان عمره ثماني عشرة سنة رحمه الله.
نعم هؤلاء هم العلماء الذين لا يخافون في الله لومة لائم لأنهم علموا الحق وعملوا به، وابتغوا الأجر والثواب من الله، وما توانوا عن قول الحق، ولو كلفهم حياتهم.
كان هذا الإنكار على الحكام، وشرع الله مطبق في كل نواحي الحياة. فما بالنا اليوم وحكم الإسلام معطل؟!.
فيا علماءنا الأجلاء ورثة الأنبياء، الآن الحاجة لكم أصبحت أعظم في ظل ما تعيشه الأمة من ذل وهوان جراء تسلط الكافر المستعمر عليها، وموجة العَلْمَنةِ التي تَشُدُّ بحملتها اليوم على منْطقَتِنا في محاولةٍ لشيطنة الإسلامِ السياسي، بل لقد اشتدت الحملةُ حتى باتت تريدُ ضربَ البقيةِ الباقيةِ من أحكامِ الإسلام، في الأحوالِ الشخصيةِ والأسرةِ، عبر اتفاقية العهر والدعارة (سيداو) وغيرها، وكان حرياً بكم عدم السكوت، والصدع بالحق في ظل الضعف الذي تمر به هذه الأمة الكريمة، كنتاج طبيعي لتطبيق النظام الرأسمالي الجائر عليها.
فيا علماءنا الأجلاء، لا مخرج لكم ولأمتكم من هذه الحال المزرية، إلا بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، فاعملوا مع حزب التحرير الذي يصل ليله بنهاره، وضحى بالغالي والنفيس لإقامتها، وحتى لا ينالكم إثم القعود عن هذا الفرض العظيم بل تاج الفروض؛ حتى يعود المسلمون لسابق عهدهم سادة الدنيا وقادتها، فتنالوا بذلك عز الدنيا والآخرة.
بقلم: عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع