تعيش ثورة الشام أياماً عصيبة ومتناقضة، فرغم الضعف الذي يظهر عليها في الشمال بأرياف حماة وإدلب، نرى أسود الغوطة وهم يُفقدون النظام توازنه، ويجعلونه يتخبط ويكذب بعد حصار قواته في إدارة المركبات بالغوطة الشرقية، التي تعتبر إحدى قلاعه التي كان يسوم منها أهلنا سوء العذاب بالقصف والتنكيل، في وقتٍ ما زالت الجبهات الأخرى في درعا وحمص تغط في نوم عميق وكأنها ليست من الشام، وكأنها لا علاقة لها بما يجري! هذا التناقض العجيب يفسره ارتباط قادة فصائل الثورة، وتوجيههم وفق الإرادة الخارجية وليس وفق مقتضيات العمل الحقيقي الذي يسقط النظام.
إن التناقض في ثورة الشام ليس هو بين أهلها المتفقين على إسقاط النظام، وإنما بين قادة الفصائل وشرعييهم من جهة وأهل الشام من جهة أخرى، وكل ذلك لغياب القيادة السياسية الواعية المخلصة التي تسير بأهل الشام وثورتهم إلى حيث يحب الله ورسوله والمؤمنون، في ظل تآمر دولي منقطع النظير على أهل الشام وثورتهم وانكشاف حقيقة النظام الدولي وقيمه الكاذبة التي يتاجر بها على حساب الشعوب.
فقد أكدت المجريات الميدانية هذه الأيام أن من استلم زمام قيادة الثورة في الخارج وحتى من قادة الفصائل، أكدت أنهم لا يمتلكون أي رؤية لليوم الآخر، فاتفاقات الذل والعار في جنيف وأستانة التي كانت لها نتائج كارثية على الثورة، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه القيادة مرتهنة للخارج ولا تنظر إلى معاناة الناس، وآخرها حركة النزوح الكثيف لأهلنا من أرياف إدلب الجنوبية الشرقية وأرياف حماة الشرقية وسط أجواء باردة وعواصف وأمطار، بسبب تقدم مليشيات النظام على حساب هذه الفصائل التي رهنت قرارها للمجتمع الدولي الذي لا يرى إلّا بمنظار مصالحه، وعلى رأسها الحفاظ على نظامه الإجرامي في دمشق.
فهذه الاتفاقات السياسية تُبَيّنُ أن من ادعى تمثيل أهل الشام لا يملك أي حس بالمسؤولية عدا عن قصر النظر، إن لم نقل الخيانة والعمالة، فالثورة التي خرج أهل الشام بها على النظام أدرك أهلها من اليوم الأول حقيقة هذا النظام، الذي يقف بجانبه كل مجرمي الأرض وعلى رأسهم دول الغرب ومنظمتهم الأممية، ورفع منذ البداية شعارها المعروف (يا الله ما لنا غيرك يا الله) بينما من قفز إلى تمثيل الثورة ونصّب نفسه نائباً عنها، لم يكن لديه أي فهم للسياسة وقوانينها ومبادئها، فأصبح ألعوبة بيد أعداء الثورة، يجرونه إلى المؤتمرات (المسرحية) التي يتم بها بيع القضايا والتنازل عن المبادئ، ليس هذا فحسب بل إنه وفي خضم معركة حامية الوطيس على كافة المستويات أعطوا النظام على طاولة المفاوضات ما كان يحلم باستعادته بالقوة، وهذا شاهده الجميع، وأثبتت الأيام العصيبة على الثورة أن الإنجازات العسكرية تتبخر أمام قرار سياسي صغير في مؤتمر الثعالب الماكرة، في ظل عالم متجرد من القيم والأخلاق.
لقد تحدثنا وعلى أكثر من منبر أن المكتسبات التي حققتها الثورة لم تكن بالمكتسبات الصلبة التي يمكن الاعتماد عليها قبل الذهاب إلى مؤتمرات التنازل، وأثبتت الأيام صوابية رأينا وأن الأعمال العسكرية الجبارة والتضحيات العظيمة لم يُحَافَظ عليها لوجود فراغ كبير في رأس هرم الثورة، ألا وهو قيادتها السياسية، هذا الجانب المهم جداً في الحياة، فالنظام ورغم خسرانه للأرض وخسائره الفادحة على كافة المستويات، إلا أن وجود القيادة السياسية حافظ على وجوده، فكانت المرجعية التي يرجع إليها جميع أركان النظام في كل شأن، وفي ظل الدعم اللامتناهي لهذه العصابة الحاكمة، تمكنت من استرجاع الكثير من المناطق، واستعادة الزخم على حساب الثورة، والمقولة تقول إن هزيمة قضيتنا لا تعني بطلانها بل يجب تغيير رجالها، وفي حالتنا فإن رجال قضيتنا هم قادة فصائلها الذين لم يعوا حقيقة الثورة وموقف الدول منها عن طريق فرض الشروط والإملاءات، ونظراً لضعف هؤلاء القادة وجبنهم وخوفهم قبلوا ما يُملى عليهم ففرطوا بقضية الثورة وأهلها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكان حرياً بأهلنا في الشام تغيير هذه القيادة.
وفي الجانب الآخر فإن الثورة مع كل ما ظهر عليها من ضعف في الشمال وتقدم مليشيات النظام، ظهرت قوتها في قلب النظام وعاصمته، فثوار حرستا على قلتهم أثبتوا ضعف النظام وتهلهل قواته، أمام القلة الصابرة المحتسبة، وهذا التقدم يمكن أن يبنى عليه وأن يكون خطوة نحو سحق النظام والقضاء عليه، إذا توفرت الإرادة لذلك، وهذا غير موجود على المدى المنظور خصوصاً على الجانب العسكري لافتقاد قيادات الفصائل للرؤية الاستراتيجية للثورة وأهدافها التي يجب أن تتحقق وكيفية تحقيقها، هذه الكيفية التي يجب أن تكون مرتبطة بوجهة النظر عن الحياة، ونحن المسلمين وجهة نظرنا في الحياة تأتي من زاوية العقيدة الإسلامية، وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أي أن كل شأن في حياتنا مهما صغر مرهون بأوامر الله سبحانه وتعالى، وأن طريقة تنفيذه تكون بالسير على نهج الحبيب عليه الصلاة والسلام، فالصراع في ثورتنا أصبح واضحاً جلياً بين الإسلام الذي تمثله الثلة الثائرة على النظام، والكفر الذي يمثله النظام ومن خلفه منظومة الكفر العالمي بأنظمته ومنظماته ومؤسساته، وحتى ننتصر علينا أن نأخذ بأسباب النصر، وذلك بالتقيد بأوامر الله جل في علاه، في كل شأن وعلى رأسها الشأن السياسي.
وعليه فإن بقاءنا على ما نحن عليه لن يؤدي بنا إلّا إلى الهاوية، وسنبقى ندور في حلقة مفرغة، ولن نحصد إلّا الخيبات المرتبطة بالمعاناة الإنسانية لأهلنا وشعبنا، ويجب علينا أن نتدارك ذلك بالخروج من الصندوق، وأحب أن أعطي مثالاً للعسكريين في ذلك، فالنظام الذي يتقدم تحت وابل من الغارات الروسية الكثيفة لطيرانه المجرم على بقعة صغيرة يريد التقدم إليها، نستطيع إحباطها من جانبين: الأول بفتح معارك أخرى، وجبهاتنا مع النظام كثيرة من حلب إلى الغاب إلى حمص ودرعا وغيرها، والثانية بفتح جبهة الساحل للوصول إلى حميميم القاعدة الروسية وإبطال مفعولها، ونحن بإذن الله قادرون، إن تحرر قرارنا الذي ألزَمَنا به غباءُ قادة الفصائل، في أستانة وجنيف وملحقاته، التي يراد لها أن تكون جداراً يقف أمام طموحنا في إسقاط النظام وتحكيم الإسلام.
يا أهلنا في الشام، إن من لم يستطع أن يحافظ على الثورة ويكملها وهي في قوتها، لن يكون بمقدوره الحفاظ عليها واستمرارها وهي في ضعفها، وهذا شأن كبير لا يتصدى له إلّا الراسخون في العلم أصحاب الفكر المستنير الذين يرون ما خلف الجدار، فأعداؤنا ينتصرون علينا بالمكر والخداع ونقع صرعى بين أيديهم بالمؤامرات، وحتى نحفظ تضحياتنا ودماء شهدائنا، علينا أن نعطي أمر قيادة الثورة إلى القادر على إدارتها والقبطان الماهر الذي يجتاز بها العواصف والأمواج العاتية، الذي يمتلك الرؤية المستقبلية، وعنده الخطط السياسية التي يفشل بها مؤامرات الأعداء، وهذا يتطلب التحرك على كافة المستويات الشعبية والعسكرية والاجتماعية، لإزاحة الفاشلين والمتخاذلين والمرتبطين عن قيادة دفة الثورة، واتخاذ قيادة حزب التحرير قيادة سياسية تسير بالثورة إلى النصر والتمكين، بإسقاط النظام وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد معاز
رأيك في الموضوع