تدعو النظرية الأصلية للرأسمالية إلى زيادة الإنتاج وبالتالي إلى زيادة مطردة في ثروة الأمم، وتعتبر أن زيادة الإنتاج إلى جانب ديناميكية العرض والطلب وآلية الأسعار سيضمن أفضل توزيع للثروة المنتَجة على أفراد المجتمع. وبالفعل فقد تَوَاصَل ارتفاع إنتاج الثروة في ظل الرأسمالية على مدى المائة سنة الماضية، ومع ذلك فقد استمرَّ عدد الأشخاص الذين يُصنَّفون كفقراء على أساس المعايير المحلية والوطنية والدولية بالرغم من نمو الثروة وزيادتها بشكل مضطرد. هذه الظاهرة هي ظاهرة عالمية تشمل الدول الغنية جداً مثل الولايات المتحدة الأمريكية كما تشمل الدول الفقيرة جداً مثل هايتي وجنوب الصحراء الكبرى الأفريقية. وقد أعرب رؤساء الدول الكبرى في إحدى قمم منظمة الأغذية والزراعة العالمية (FAO)، عن قلقهم العميق إزاء استمرار الجوع والذي يُشكّل تهديداً للمجتمعات الوطنية ولاستقرار المجتمع الدولي نفسه. في الوقت الذي أكدوا فيه أن الإمدادات الغذائية على مستوى العالم قد ازدادت بشكل كبير، ولكنّ الفقر والجوع ما زالا مستمرين، وعلى الرغم من اعترافهم بأن الإمدادات الغذائية قد ازدادت بشكل ملموس ولكن دون أن تحدّ من الجوع، إلا أنهم أصرّوا على أن الحل لمشكلة الفقر والجوع يكمن في المزيد من الشيء نفسه "زيادة إنتاج الغذاء"!!. لقد أكد قادة العالم وجود مشكلة خطيرة من الفقر والجوع، وفي الوقت نفسه يستمرون بإعلان أن الحل هو زيادة الموارد والمنتجات.
كان ينبغي على القادة والمراقبين والمنظرين أن يُلاحظوا أنّ العيب ليس في إنتاج الأغذية والكميات المتوفرة منه، بل إن المشكلة حقيقة تكمن في آليّة توزيع الغذاء والموارد على الناس والتي ثبت فشلها في تمكين كل شخص من الحصول على السلع والخدمات الضرورية لحياته. وما دامت آلية توزيع الموارد والمنتجات باقية على حالها وكما كانت، فلا شك أن النتيجة النهائية ستبقى كما هي دون تغيير، فسوف يزيد إنتاج الموارد وتزداد ثروات من هم أثرياء أصلاً، ولكن ذلك لن يفيد أولئك الذين يحتاجون هذه الموارد أكثر من غيرهم.
لقد كان الناتج القومي أو المحلي الإجمالي للدول الفردية، وكذلك للعالم بأسره، في ارتفاع مستمر لعقود من الزمن. وقد تجاوز الناتج القومي الإجمالي في الولايات المتحدة 18 تريليون دولار في عام 2015. بمعدل 800 مليار دولار زيادة كل عام، ومع ذلك فإن معدلات الفقر لم تقل عن 13% في أمريكا بالرغم من زيادة الإنتاج. لاحظ أن هذه الأرقام تتعلق بالولايات المتحدة وهي أغنى بلد في العالم وزعيم الرأسمالية. أما الإحصاءات حول الجوع في العالم فهي صادمة، ومذهلة، ومرعبة، وحجم المشكلة يبدو كارثيا عندما نعرف أنّ الموارد والمواد الغذائية المهدورة في العالم أكثر مما يلزم لإطعام جوعىهذه البلدان. فإنه وفقاً للبيانات والإحصاءات المنشورة حول الجوع من قِبل البنك الدولي وغيره من المنظمات، فإنه يموت شخص واحد في هذه البلاد كُلَّ ثانية بسبب الجوع وسوء التغذية، حيث 85٪ من ضحايا الجوع هم من الأطفال. وفي البلدان الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، هناك أكثر من 1.3 مليار شخص ما زالوا يعيشون فيما يسميه البنك الدولي بالفقر المُدقِع، حيث يعيش هؤلاء بمستوى متدن من الدخل يقل عن دولار واحد في اليوم، وهذا المستوى من الفقر المدقع يؤدّي إلى أنواع مختلفة من الأمراض وسوء التغذية والموت المُحتمل.
وتُظهر أرقام البنك الدولي أنه في عام 2015 كان هناك 2.5 مليار شخص يقل دخلهم عن 2 دولار في اليوم، وهو ما يعادل ثلث سكان العالم. وتقدر الإحصاءات أن أكثر من 70% من البشر يعيشون على أقل من 5 دولار يوميا [i]. ويُصرّح بيتر روسيت مدير معهد سياسات الأغذية والتنمية في ولاية كاليفورنيا بوضوح أن الموارد الغذائية في العالم وفيرة وليست شحيحة، ويُعلن أن "الاعتقاد بأن مشكلة الجوع في العالم يمكن حلها من خلال زيادة إنتاج الغذاء هو خرافة لا أساس لها، إذ إن المشكلة الحقيقية هي الفقر وسوء توزيع الغذاء والثروة". فالرأسمالية تدعي زورا وبهتانا أنه لا يوجد ما يكفي من الموارد (كالطعام مثلا) لإطعام كل معدة فارغة. وقد لخّص لاري براون، مدير المركز الوطني للجوع والفقر مشكلة الجوع في الولايات المتحدة في كتابه الجوع في أمريكا: الوباء المتنامي، حيث قال: "نحن أغنى دولة في تاريخ العالم ولدينا الملايين من الناس، وما زلنا غير قادرين على تخليص مجتمعنا من هذه الآفة. الولايات المتحدة ليست الدولة الوحيدة التي يجوع فيها الناس ولكنها الدولة الصناعية الوحيدة الغنية التي تعاني فيها مثل هذه النسبة العالية من سكانها من الحرمان الغذائي بسبب عدم كفاية الدخل". المشكلة الرئيسية فيما خلص إليه براون هي اعتقاده أن حلّ مشكلة الجوع مسألة سياسية حيث يمكن للقادة السياسيين غرس برامج للتعامل مع الجوع. وهذا وَهْمٌ لأن هذه السياسات والبرامج لا تقضي على السبب الجذري للمشكلة، فعندما خفّضت إدارة ريغان سبعة مليارات دولار من برنامج الكوبونات الغذائية في عام 1981 زحفت مشاكل الجوع والمشاكل الناجمة عنها، مثل فقر الدم والسل وضعف النمو وهشاشة العظام، وعادت على الفور. وليس من المستغرب بعد ذلك أن تجد أحد تعريفات الجوع في قاموس أوكسفورد عام 1971 هو "العَوَز أو نُدرة الغذاء في بلد ما"!
وحقيقة الفقر أنه عندما يكون لدى الشخص أموالٌ أقل مما يكفيه فعلاً لتلبية حاجاته الأساسية من مأكل وملبس ومسكن وعلاج لصحته مصداقا لقول رسول الله e في الحديث الذي رواه عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ حيث قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا».. والإسلام يدعو ويعمل للقضاء على الجوع، ويجعل من هذه الدعوة ركنا أساسياً من أركان الإسلام، فقد ورد عن النبي e أنه قال «أيّما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله». وقد جاء الإسلام بآليات واضحة محددة تمنع انتشار الفقر وتعالجه حيث يوجد. فأحكام النفقة تعالج الفقر في محيط العائلة، وأحكام الميراث تضمن توزيع المال وعدم حصره في أيد محدودة، وأحكام الملكية العامة ومصارفها تضمن حاجات أساسية للأفراد كالصحة والتعليم والمال من أجل الحياة، وتحريم الربا يمنع زيادة المال على حساب أموال الناس، وتحريم الكنز يضمن بقاء المال في دورة الإنتاج ووصوله إلى شرائح مختلفة من الناس، وأحكام الشركات تمنع المال أن يُستثمر بدون جهد صاحب المال أو المضارب، ... وهكذا فالنظام الاقتصادي في الإسلام وفر مجموعة من الأحكام التي بمجموعها تمنع الفقر من الانتشار وتعالجه إذا ظهر.
رأيك في الموضوع