في مطلع شهر نيسان/أبريل من العام الحالي 2016م، أصدرت إدارة الجمارك السودانية تقرير الأداء المالي التراكمي الشهري عن شهر آذار/مارس؛ والذي يعرفه الاقتصاديون بالأداء المالي للربع الأول من العام المالي 2016م، ويشير التقرير إلى تراجع كبير في أغلب سلع الصادر، إذ تناقصت بـ 557 مليون دولار مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي 2015م حيث كانت 1.663 مليار دولار ولكنها تناقصت في العام الحالي إلى 1.106 مليار دولار.
كما تراجعت صادرات الذهب عن الفترة نفسها من العام السابق بنسبة نقصان بلغت 41%. وكذلك تراجعت صادرات المنتجات الزراعية بنسبة 35% من نفس الفترة من العام السابق. كما سجل الميزان التجاري عجزاً بلغ ملياراً ونصف المليار دولار للربع الأول فقط من العام 2016م. معلنا نقصاناً بنسبة 50% من نفس الفترة من العام السابق.
توضح الأرقام أعلاه حالة كارثية، يواجهها الاقتصاد في هذه البلاد، حيث جُعل العام السابق 2015م عاماً للمقارنة كأنه كان يقطر عسلاً ويدر لبناً لأهل هذه البلاد المكلومة، بل كان هو نفسه عام بؤس وشقاء في مؤشراته الاقتصادية، وحالته الاقتصادية. ولا شك أن هذه المؤشرات والأرقام تدل على تدهور اقتصادي بل انهيار لم يسبقه مثيل للوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد، ومن مظاهر الانهيار الاقتصادي في السودان:
- الغلاء الطاحن الذي يكابده الناس في جميع السلع والخدمات وحتى الضرورية منها كالخبز والأدوية وغاز الطهي وغيرها.
- التدني المريع في العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.
- البطالة المقنعة التي يصارعها الكثير من أبناء البلاد.
- التدني في الإنتاج الصناعي والزراعي بشقيه.
هذا الانحدار الرهيب، حول حياة الناس إلى جحيم لا يطاق.
الثروات والموارد في السودان
وأما إذا ألقينا نظرة خاطفة على الواقع الحقيقي للثروات والموارد التي حظي بها السودان، سنجد العجب العجاب، والمفارقات التي تجعل الشخص يقف حائراً أمام بلد زاخر بالخيرات، مليء بالموارد الطبيعية، وأهله ينامون بجوارها ويتضورون جوعاً، يصارعون فقراً مدقعاً!! يا لها من معادلة صعبة، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾، فهيا نتأمل في عجالة سريعة أهم ثروات البلاد.
ينتج السودان الآن بعد انفصال جنوبه (150) ألف برميل نفط يومياً، تكفي لاستهلاكه المحلي البالغ (100) ألف برميل يومياً وتزيد. (صحيفة التغيير العدد/ 153 الصادرة بتاريخ 6 آذار/مارس 2014).وحسب ما نقلت وزارة المعادن والتي توقعت أن يصل إنتاج السودان من الذهب في العام إلى 70 طناً. كما يعتبر السودان واحداً من أهم بلدان العالم التي تتوافر فيه المياه والأراضي الزراعية الصالحة للزراعة، حيث إن إجمالي مساحة الأراضي الصالحة للزراعة تقدر بـ 200 مليون فدان، (الجزيرة نت 26/6/2014م.)، مما يجعله "سلة غذاء" عالمية مؤكدة. ويمتلك أكبر قطاع من الثروة الحيوانية ويعتبر سادس أكبر ثروة حيوانية في العالم، والتي تقدر بأكثر من 130 مليون رأس من الأبقار والأغنام والماعز والإبل. (17 نيسان/أبريل 2014 - سونا)، وكثير من الثروات الغابية والبشرية والمعدنية التي تزخر بها هذه البلاد الطيبة.
ورغم هذه الثروات الطائلة فإننا لا نجد لها أي أثر في اقتصادنا ولا في إنتاجنا، بل نتجرع الأسى والحرمان، ونعيش عوزا وفقرا مدقعاً، وبين أيدينا هذه الثروات العظيمة.
بعض المعالجات المطروحة لعلاج الوضع الاقتصادي:
إن أبرز معالجات النظام الاقتصادي الرأسمالي للأزمات الاقتصادية بشكل عام، لا تتعدى زيادة الضرائب، وتقليل الإنفاق، والقروض، والخصخصة، أو تُرسم سياسات وتُوضع خطط تُستخدم فيها مصطلحات، مثل زيادة الإنتاج والإنتاجية، وتفعيل سياسات كذا، وتشجيع النهضة الزراعية، وتوجيه كذا، وهو كلام عام غير محدد، ويفتقر لوضوح الهدف وبيان المقصد، وطريقة التنفيذ.
ولكن نلاحظ أن الحلول المقدمة لانتشال الوضع الاقتصادي، هي من نفس المنبع الذي نبعت منه الأزمة، ألا وهو النظام الاقتصادي الرأسمالي، رأس الداء وأس البلاء، والذي أثبت فشله في عقر داره، وتمخضت عنه أزمات اقتصادية عالمية متكررة، فلماذا يصر النظام في السودان على حبس الحلول ضمن حدود تلك التجربة الفاشلة واقعياً والباطلة مبدئيا؟!.
إن الداء يكمن في جوف الرأسمالية، التي تحمل حتفها في ثناياها، لأنها تدعي بأن حاجات الإنسان غير محدودة، في مقابل السلع والخدمات المحدودة، أي أن الحاجة والفقر أمر طبيعي لا فكاك منه. كما أن هذا النظام ظل يطبق منذ أكثر من ثلاثة قرون وهو يترنح تحت وطأة الأزمات، فهل عالج مشكلة الفقر؟ البطالة؟ الأزمات المتكررة؟ الديون؟ رغم نهبه للثروات وامتصاصه لدماء البشرية. فلماذا تتشدقون بهذا النظام الفاسد؟ ولماذا تحاولون حل مشاكلنا عن طريق إعادة نسخه، وهو خال وعار من حلول جذرية، بل الحل يكمن في اجتثاثه عن وجه الأرض.
فها هي الدول الكبرى، صاحبة أكبر اقتصاديات العالم، عاجزة عن حل مشكلاتها الاقتصادية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الاقتصاد الأمريكي يساوي ضعفي ثاني اقتصاد عالمي (الصين)، موقع ويكيبيديا (http://ar.wikipedia.org/wiki) مع هذا الحجم، لم يتعافَ من الأزمة التي ضربته منذ العام 2008، كما أن عدد الذين يعتمدون على برنامج التغذية المساعدة المكملة، واحد من كل ثمانية أشخاص (صحيفة نيويورك تايمز الأميركية 28/11/2012). هذه هي ثمرة الرأسمالية العفنة، أن يجوع الناس بسوء رعايتها لهم وسوء نظامها الاقتصادي القائم على الإجحاف في توزيع الثروات بين الناس.
إن هذه الحلول المطروحة، بطريقة النظام الاقتصادي الرأسمالي، لا تحل المشكلة، وإن أثمرت لا تتعدى الآتي:
زيادة معدلات نمو الناتج الإجمالي، والذي في حقيقته ليس حلاً ولا معياراً يعكس الحالة الاقتصادية الحقيقية للبلاد، بل هو مجرد زيادة الدخل الكلي لمجموع الناس، وليس لأفرادهم، ومن الممكن أن يزيد حفنة قليلة من رجال الأعمال فيظنَّ الناس أن هناك حالة انتعاش اقتصادي ولكن الواقع وهْمٌ وسراب. أو قد تحل مشكلة عجز الموازنة حلاً مؤقتاً في عام دون آخر. أو قد تعالج الدين بدين أكبر وهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار، لأن الدين إن كان داخلياً، فإنه يوقع في الربا وزيادة المشكلة، وإن كان خارجياً، فالكارثة والمصيبة أكبر، فيزيد الداء، ويرهن البلاد والعباد للكافر المستعمر ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
أما زيادة الإنتاج الكلي فإنها لا تعني بالضرورة حل مشكلة الفقر ولا عدالة التوزيع ولا تحل مشكلة اقتصادية، والذي حدث أن ثروات (س) من الناس زادت فزاد الإنتاج الكلي.
كما أن من المعالجات التي طرحتها الحكومة لسد الفجوة في الاقتصاد التي حصلت بسبب الانفصال وفقدان الثروات النفطية التي ذهبت بذهاب الجنوب، قد أعدت ما يسمى بالبرنامج الإسعافي الثلاثي من العام 2012 – 2014م، وكان من أبرز أهدافه استعادة التوازن في الميزان الخارجي وتعويض العجز في صادر البترول المفقود، فإذا بعجز الميزان التجاري الذي كان في العام 2012م 3 مليار دولار أصبح بعد نهاية البرنامج 6 مليار دولار. وكذلك هدف البرنامج إلى محاصرة عجز الموازنة العامة فإذا به يقفز من 3.5 مليار جنيه إلى 12 مليار جنيه.
ومن أهم أهداف البرنامج الإسعافي تفعيل سياسة الاكتفاء الذاتي من السلع الضرورية بتوجيه النهضة الزراعية وإحلال الواردات بالتركيز على القمح، والنتيجة أزمات خبز متكررة يشهدها السودان، مما يدل دلالة قطعية على فشل البرنامج الإسعافي الذي رسم. وقبل أن يجف حبر هذا البرنامج الفاشل، إذا بالحكومة تخرج لنا من جعبتها فلسفة جديدة سمتها البرنامج الخماسي الذي امتنعت عن الإفصاح عن ملامح وأهداف هذا الخماسي، لماذا؟ حتى لا ينكشف عواره، كما فضح أخوه من قبل. يُتبع
بقلم: سليمان الدسيس*
رأيك في الموضوع