ليس من المبالغة القول إن الانتخابات الأمريكية القادمة هي الأكثر أهمية وحساسية منذ ستين دورة انتخابية؛ أي منذ أول انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة سنة 1789م؛ حيث انتخب الرئيس الأول للولايات المتحدة جورج واشنطن، فما الذي يميز هذه الانتخابات؟ وما هي الأجواء الانتخابية التي تعيشها أمريكا؟ وهل يمكن أن يعود دونالد ترامب إلى الرئاسة مرة أخرى؟ وكيف ستؤثر عودته إلى البيت الأبيض على كثير من الملفات السياسية والاقتصادية؛ الداخلية والخارجية؟
إن ما يميز هذه الانتخابات عن سابقتها؛ أولا: تأثرها بشكل فاعل وكبير بالانتخابات السابقة سنة 2020 وما حصل في تلك الانتخابات. والأمر الثاني: الأجواء المشحونة التي تجري في ظلها هذه الانتخابات في داخل أمريكا. وأما الأمر الثالث: الملفات الساخنة الكثيرة والمتعددة التي تعيش في أجوائها وتؤثر وتتأثر بها بشكل فاعل وكبير.
وقبل أن نتناول هذه الأمور الثلاثة نقول بأن احتمالية عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مرة أخرى هو الأمر المرجح؛ من خلال استطلاعات الرأي داخل أمريكا، وتوجهات الناخب الأمريكي، وخاصة في ظل الفشل وسوء الإدارة الذي واجهه جو بايدن خلال مرحلة حكمة الممتدة أربع سنوات مضت؛ حيث إنه قد واجه فشلا في أزمات سياسية عالمية، مثل الحرب الأوكرانية؛ حيث إن طول الحرب وكثرة النفقات قد أثر على الناخب الأمريكي. وواجه فشلا كذلك في موضوع معالجة الأزمة الاقتصادية؛ حيث ازدادت المديونية في عهده؛ ما اضطره لرفع سعر الفائدة الربوية خمس مرات متتالية. وارتفعت معدلات البطالة، وأثر ذلك كله على مستوى الدخل للمواطن الأمريكي. وواجه فشلا أيضا في إدارته للأزمة الحاصلة اليوم في فلسطين، وموقف الإدارة الحالية منها. وما زال يواجه تعثرا وفشلا في السياسة التي رسمها للصين من أجل تطويعها واحتوائها. وكان آخر هذا الفشل زيارة بلينكن إلى الصين وعودته خالي الوفاض.
أمام هذا التعثر والفشل في إدارة الملفات الساخنة - داخليا وخارجيا - فقد تدنت شعبيته في استطلاعات الرأي المتعددة، وتكاد تجمع هذه الاستطلاعات على تقدم منافسه ترامب عليه بفارق كبير. وحسب الاستطلاع الذي أجرته صحيفة واشنطن بوست وقناة إيه بي سي في 25 أيلول/سبتمبر 2023، فإن جو بايدن يتخلف عن دونالد ترامب بنسبة 10 نقاط مئوية في هذه المرحلة المبكرة من الانتخابات المنتظرة العام المقبل. وأشار إلى أن الرئيس الأمريكي الحالي "يكافح للحصول على موافقة الجمهور المتشكك، مع تزايد الاستياء من تعامله مع حرب أوكرانيا والاقتصاد والهجرة، إلى جانب عمره المتقدم". وأبرزت النتائج أن أكثر من 3 من كل 5 ديمقراطيين ومستقلين - ذوي ميول ديمقراطية - يقولون إنهم يفضلون مرشحا آخر غير الرئيس الحالي!
أما الأمر الأول وهو تأثر الانتخابات القادمة بشكل فاعل وكبير بالانتخابات السابقة سنة 2020 وما حصل فيها، فإن الانتخابات السابقة قد خلفت حالة من العداء والشحناء والاتهامات المتبادلة بين الرئيسين ترامب وبايدن، وامتدّ الأمر إلى الحزبين الكبيرين، ولم يقف عند الرئيسين. فما جرى في حادثة اقتحام مبنى الكونغرس 2021 قد أحدث تأثيرا كبيرا في مستقبل الانتخابات المقبلة 2024؛ فقد ذكر موقع الجزيرة نت بتاريخ 29/12/2023: "قضت ولاية ماين الأمريكية، أمس الخميس، بعدم أهلية الرئيس السابق دونالد ترامب لخوض انتخابات الحزب الجمهوري التمهيدية للانتخابات الرئاسية لعام 2024، وذلك بعد أسبوع من قرار مماثل اتخذته المحكمة العليا في ولاية كولورادو على خلفية اقتحام حشد من أنصاره مقرّ الكونغرس في عام 2021"، وربما تطور هذا الأمر ليشمل ولايات أخرى مشابهة. ومن ذلك أيضا ما يجري هذه الأيام في بعض الولايات مثل ولاية تكساس من تمرد على قرارات الرئيس بايدن في قضية كان ينادي بها ترامب في الانتخابات السابقة وهي الناحية القومية للشعب الأمريكي، ومنع الهجرة من الخارج. فقد أعلن حاكم ولاية تكساس غريغ أبوت في 27 كانون الثاني/يناير 2024 تلقيه دعم حكام 25 ولاية أمريكية من أصل 50 ولاية لحق تكساس بالاستقلال والدفاع عن نفسها. وكتب غريغ على صفحته الرسمية بمواقع التواصل الإلكتروني: "لقد تلقينا تواً دعم نصف سكان أمريكا"، مؤكداً السير بالدفاع عن أمن وحدود الولاية. كما توعد بإسقاط جو بايدن. وتأتي تصريحات أبوت عشية تصاعد المخاوف الدولية من حرب أهلية في الولايات المتحدة؛ مع أمر بايدن للقوات الفيدرالية باقتحام تكساس وفرض السلطة.
أما الأمر الثاني وهو الأجواء المشحونة التي تجري في ظلها هذه الانتخابات، فأبرزها كما ذكرنا التخوين واتهامات الفساد التي بدأها بايدن ضد ترامب في أكثر من قضية، أبرزها الملفات السرية وإخفاؤها، وتصاعد التوتر في الولايات المؤيدة لكلا الطرفين المتنافسين.
ونصل إلى النقطة المهمة الثالثة وهي الملفات الساخنة الكثيرة والمتعددة التي تعيش في أجوائها وتؤثر وتتأثر بها بشكل فاعل وكبير. وقبل أن نذكر بعضا من هذه الملفات الساخنة لا بد من التذكير بأن سياسات الحزب الجمهوري وتدخلاته، حتى وهو بعيد عن الحكم، ما زالت تؤثر في كثير من الملفات الساخنة في أمريكا على رأسها قضية فلسطين ومسألة التطبيع مع الدول المحيطة، والحرب الأوكرانية، وقضية محاولات احتواء الصين وغيرها.
إن هناك قضايا ساخنة ستتأثر بشكل مباشر بنتائج هذه الانتخابات، منها ما يسمى بقضية فلسطين؛ حيث التناغم بين اليمين الأمريكي بقيادة الجمهوريين، والأيباك اليهودي، وبين حكومة نتنياهو، وقد بدأ ترامب بعض المشاريع بالفعل في دورته الرئاسية السابقة، وسيقوم بإكمال ما بدأه سابقا؛ خاصة أن نتنياهو قدم له خدمات كثيرة في وجه مشاريع الديمقراطيين برئاسة بايدن. ومن ذلك ما يتعلق بالقدس، وما يتعلق كذلك بصفقة القرن التي كان ينادي بها. ومن القضايا الساخنة أيضا قضية الحرب الأوكرانية، حيث يميل ترامب إلى إيجاد الحلول السياسية مع روسيا. وقد صرح بذلك عدة مرات، وفي عدة مناسبات، فقد صرح عبر قناة سي إن إن الأمريكية في 11/5/2023 أمام جمهور مباشر في ولاية نيوهامشر: "سأوقف الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة". وأنّه يُمكنه وقف الحرب التي بدأت في شباط/فبراير العام الماضي من خلال التفاوض مباشرة مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي. أما ما يتعلق بالصين وسياسة ترامب، فإن ترامب قد أبدى موقفا متشددا في فترة رئاسته مع الصين، حتى إنه اتخذ خطوات عدة كانت بمثابة الحرب التجارية؛ وعلّل ذلك بحرمان الصين من أي تفوق اقتصادي عالمي. وسوف يعود إلى السياسة الاقتصادية نفسها ويحاول الابتعاد عن المواجهة المباشرة.
وفي الختام نقول: إن طريقة الغرب في الانتخابات هي طريقة سقيمة تثير الشقاق والنزاع لأنها ليست مبنية على الاختيار الصحيح، ولا الطريقة الصحيحة في الترشح. فهي مبنية على مفاهيم رأس المال والنفعية والمصلحية، وهذا لا يقود أبدا إلى الاستقرار السياسي ولا إلى اختيار الأفضل والأصلح.
إن مستقبل العالم لا يصلحه إلا الإسلام؛ نظام العدل والاستقامة في كل شيء؛ سواء في الانتخابات كنظام سياسي، أو في النظام الاقتصادي أو الاجتماعي أو الحكم وغيرها... وهذا مبشر. إن دين الإسلام هو وحده الذي سيحكم وجه الأرض، وإن البشرية ستتجه نحو الاستقامة بسبب هذا الاعوجاج والتردي والانحطاط، وبسبب البحث عن المخلص الحقيقي من هذا التردي. نسأله تعالى أن يعجل بانهدام الكفر ومبادئه، وطريقة عيشه، وبزوغ نور الإسلام قريبا بإذن الله.
بقلم: الأستاذ حمد طبيب – بيت المقدس
رأيك في الموضوع