ذكرنا في الحلقة السابقة بأن روسيا قد باتت تدرك أن أمريكا تهدف إلى تمزيقها، وجعلها دولة خانعة ذليلة، وتهدف للسيطرة على مناطق نفوذها المجاورة، وداخل الدول التي تشكل الاتحاد الروسي الحالي. ونكمل في هذه الحلقة بعض الأمور إكمالاً للموضوع السابق:
قال الرئيس الروسي بوتين، في خطابه السنوي أمام النخب وقادة الجيش في 21/2/2023 في الذكرى الأولى لبدء الحرب على أوكرانيا: "النخب الغربية لا تخفي هدفها؛ إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا؛ أي القضاء علينا مرة واحدة وإلى الأبد". أما وزير خارجيته لافروف فقال في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الروسية الرسمية في 27/11/2022: "تؤكد تصرفات الغرب مجتمعا، ودميتهم الرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي الطبيعة الدولية للأزمة الأوكرانية، فلا يخفى على أحد أن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو هو الانتصار على روسيا في ساحة المعركة؛ كآلية لإضعاف بلدنا أو تدميره..." وتابع: "خصومنا سيقومون بكل ما يلزم لتحقيق هذا الهدف".
وما جعل أمريكا تصمم على هذه الأهداف تجاه روسيا ما حصل أخيرا من تقارب بين الصين وروسيا فيما يسمى بالحلف الاستراتيجي أو الشراكة الاستراتيجية، والذي أكدته الدولتان، وجددت بنوده سنة 2022. ثم كان أكثر تحدّيا عندما زار الرئيس الصيني موسكو في 21/4/2023، ووقع اتفاقات اقتصادية عدة معها، وأكد مفهوم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وقد أشار الرئيسان خلال اجتماعهما إلى أن: "حلف الناتو يعمل على تدعيم تحالفاته في آسيا والمحيط الهادي". ويبدو أن أمريكا تحيي من جديد سياسة احتواء الخصوم بالقواعد والتحالفات العسكرية. وفي هذه القمة الروسية الصينية تم الاتفاق على زيادة التبادل التجاري بين البلدين من نحو 150 مليار دولار أمريكي سنويا إلى نحو 200 مليار دولار. كما تم الاتفاق على إنشاء خط أنابيب آخر لتصدير الغاز إلى الصين، وهو خط "قوة سيبيريا 2" ليتكامل مع خط "قوة سيبيريا 1"، وسيربط الخط الجديد سيبيريا بشمال غرب الصين. وأكد بوتين أنه بإمكان روسيا تلبية الطلب المتزايد للصين على مصادر الطاقة. وقد ورد في تصريح آخر لبوتين بعد انعقاد القمة قوله: "إنه يعمل مع الصين في تضامن؛ لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، وأكثر عدلا وديمقراطية، والذي يجب أن يقوم على أساس الدور المركزي للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها، والقانون الدولي، وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
لقد ازدادت حدة التصريحات ضد روسيا وأعمالها وتهديداتها كما يدعي الغرب، وبرزت لهجة التصريحات الحادة في قمة الناتو الأخيرة في مدريد سنة 2023، ومما جاء على ألسنة الساسة المجتمعين: "روسيا تمثل التهديد الأكبر والمباشر لسلام وأمن أعضائه"، واعتبر الناتو في هذا الاجتماع أن الصين تشكل تحديا لمصالح دول الناتو وأمنها في خريطة الطريق الاستراتيجية الجديدة، التي اعتمدها خلال قمة مدريد. وازداد هذا التحدي أكثر عندما قررت الدول الغربية على رأسها أمريكا ضم دولتين لهما حدود طويلة مع روسيا إلى حلف الأطلسي، حيث ستصبح حدود الناتو مع روسيا حوالي 2600 كليومتر، بإضافة 1300 كم بضم السويد وفنلندا للحلف.
وقد كانت ردة فعل الصين وروسيا على هذه التحديات شديدة اللهجة حيث إن الصين قد اتهمت الناتو بمهاجمتها وتشويه سمعتها بشكل خبيث. وقالت بعثتها الدبلوماسية لدى الاتحاد الأوروبي: "إن الناتو يدّعي أن دولا أخرى تشكل تحديات، لكن الناتو هو الذي يخلق مشكلات في جميع أنحاء العالم"، أما روسيا فكانت أكثر حدة في تصريحاتها فقال وزير دفاعها سيرغي شويغو؛ تعقيبا على هذا القرار: "إن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وتحرك الحلف العسكري لزيادة الاستعدادات القتالية يزيد من مخاطر نشوب صراع"، وأضاف أن بعض الطائرات العسكرية التابعة لبيلاروسيا أصبحت الآن قادرة على حمل رؤوس حربية نووية، وأنه جرى نقل أنظمة صواريخ إسكندر إلى بيلاروسيا، مشيرا إلى أن تلك الأنظمة يمكن استخدامها لحمل صواريخ تقليدية أو نووية.
لم تستسلم روسيا لهذه السياسات الغربية بعد أن باتت تدرك الأهداف الحقيقية لأمريكا بل قامت بأعمال عدة تجاه هذا الحلف الذي يضم أكثر من خمسين دولة، منها:
- تخفيض ضخ الغاز لأوروبا التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 45%؛ ما جعلها تعاني من أزمة طاقة خاصة ألمانيا. وقامت كذلك بإنشاء خطوط جديدة للطاقة والغاز وتقوية القديم منها وزيادة إنتاجيته؛ حيث دشنت حقل كوفيكتا للغاز في منطقة سيبيريا ويصب في خط أنابيب "قوة سيبيريا" المتجه نحو الصين. وقد قامت بمحاولات لتعويض قسم من صادراتها للطاقة (البترول والغاز) نحو أوروبا بالاتجاه نحو الصين والهند؛ وذلك بعروض مغرية أقل من سعر السوق بحوالي 35 دولاراً لبرميل البترول.
- عززت علاقاتها مع الصين من أجل استمرار الدعم المادي والمالي. وقد برزت قوة هذه العلاقات بتحدي الرئيس الصيني لسياسات الغرب تجاه روسيا، خاصة بعد قرار محكمة الجنايات الدولية ضد بوتين عندما زار موسكو في 20/4/2023 ووقع معاهدات اقتصادية عدة وأكد موضوع الشراكة الاستراتيجية، وطرح مبادرة السلام الصينية التي ترفضها أمريكا بشدة.
- عززت الجبهة العسكرية في اتجاهات عدة، منها على الجبهة الأوكرانية، حيث زادت من قوات فاغنر المميزة. وقامت بعملية تجنيد واسعة سنة 2022 للمتدربين، ولقوات الاحتياط لتدريبها من جديد. ثم وقع بوتين قانونا جديدا للتجنيد بتاريخ 15/4/2023، كما قامت بمناورات مع بيلاروسيا بتاريخ 16/1/2023. وقالت وزارة الدفاع في بيلاروسيا، أثناء المناورات: "في سياق الطيران المشترك، والممارسة التكتيكية للقوات المسلحة لبيلاروسيا وروسيا، جرت تدريبات عملية شارك فيها سلاح الطيران من البلدين".
- زادت من لهجة التهديد بالسلاح النووي والأسلحة فوق التقليدية؛ حيث صرح المسؤولون الروس أكثر من مرة، ولوحوا باستخدام السلاح فوق التقليدي في حال تعرض الأمن القومي الروسي لاعتداء أو تهديد فقال الرئيس بوتين أثناء إعلان تعبئة عسكرية جديدة في 15/4/2023: "إن بلاده ستستخدم كل الأسلحة للدفاع عن أراضيها"، أما مولديديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي فقال بعد إعلان بلاده الانسحاب من اتفاقية نيو ستارت النووية مع أمريكا: "إن موسكو ستدافع عن نفسها بكل وسيلة، بما في ذلك استخدام الأسلحة النووية". كما حذر من أن العالم أجمع سيكون على حافة صراع شامل، إذا أصرت واشنطن على هزيمة موسكو.
- تحاول روسيا اختراق الصف الأوروبي عن طريق بعض الدول وبمساعدة الصين. وهذا بالفعل ما جرى أثناء زيارة رئيس فرنسا للصين مؤخرا، حيث بدأت فرنسا تستجيب مع بعض السياسات الصينية لإنهاء الحرب عبر مبادرتها التي قدمتها بتاريخ 20/4/2023، وجاء في الإعلان المشترك للرئيسين الصيني والفرنسي: "إن بكين وباريس تدعمان كلّ الجهود لاستعادة السلام في أوكرانيا، بما يتوافق مع القانون الدولي، وعلى أساس مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة".
- قامت بالدعاية الداخلية في أوساط الشعب الروسي، والتحريض ضد أمريكا؛ خاصة بعد استهداف الأراضي الروسية بأسلحة غربية. فقد صرح بوتين أكثر من مرة، بأن أمريكا والحلف يستهدفون تدمير روسيا وتمزيقها. وهذا يعتبر عملا دعائيا من أجل تقوية الصف الداخلي بمواجهة التحريض الغربي للانقلاب على الأوساط السياسية والعسكرية الروسية. فالشعب الروسي يدرك ما معنى استعمار بلاده خاصة أنه خاض حربين عالميتين للتصدي للغرب
- حاولت التأثير على دور الدولار العالمي في مبادلات الطاقة، فأنشات عقودا بالروبل بدل الدولار في مبادلات البترول مع بعض الدول.
- قامت بأعمال تدميرية تجاه أوكرانيا، استهدفت مراكز الطاقة، والمراكز الحيوية والمؤسسات الصناعية. كما قامت باستهداف المنظومات الدفاعية الغربية مثل منظومة الباتريوت.
- عملت طوقا على صادرات أوكرانيا الزراعية، فتسبب ذلك بضغوطات عالمية. وهذا الأمر ظهر في مسألة الحبوب الأوكرانية، خاصة القمح؛ حيث تسبب بأزمة عالمية للغذاء، وارتفعت الأسعار في مناطق عدة في العالم، وشكلت نقطة ضغط لمعالجة الأزمة وإنهاء الحرب.
- أخذت تثير الرأي العام عند الشعوب الغربية، وداخل السياسيين في أمريكا، بأن أهداف الحرب هي استهداف روسيا، وأن هذه الحرب لم تستند إلى قانون دولي، وهذا سيؤدي إلى هدم القانون الدولي. فقد صرح وزير خارجية روسيا أكثر من مرة بأن الحرب لا تستند إلى أي قانون دولي، وهذا الأمر أعطى نتائج جيدة بالنسبة لروسيا في الصراع القائم بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في أمريكا. كما أنه ساعد على صعود اليمين المتطرف المعارض للحرب في أكثر من بلد أوروبي.
هذه بعض الأعمال التي قامت، وما زالت تقوم بها روسيا لمواجهة هذه الهجمة الغربية.
ونصل إلى الفقرة الثانية من الموضوع وهي: مستقبل هذا الصراع ومخاطره على العالم.
يتبع...
رأيك في الموضوع