يحتاج الناس في الملمات الكبيرة أن يعرفوا أو يكون لديهم تصور ولو بسيط عن المستقبل القريب أو البعيد حتى يتمكنوا من التحرك الفاعل، وهذا نعرفه من النقاش الذي حدثنا عنه القرآن الكريم بين سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام والعبد الصالح ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾. وكذلك الأمم والشعوب تحتاج إلى أن يخبرها قادتها بالخبر اليقين وأن يوضحوا لها الأهداف وإلا فكيف تصبر على ما سيقع عليها إن لم تدرك أهدافها؟ ولماذا تتحمل المشاق وتقدم التضحيات؟
ولأن ثورة الشام المباركة لم تتخذ قيادة سياسية صادقة فقد تعثرت طوال مراحلها وسقطت في كثير من الفخاخ والمؤامرات التي أحالت تقدمها إلى تراجع وانكسار. حيث بات الثوار وحاضنتهم محاصرين شمال غرب سوريا في بقعة صغيرة أشبه بسجن كبير، وكل هذا بسبب غياب القيادة السياسية الواعية التي تمتلك مشروعا محددا وطريقة مستقيمة تسير عليها على هدى وتقود الثورة على بصيرة حتى تنجو من مكر أعدائها وتحقق أهدافها.
ورغم أن حزب التحرير لم يدخر جُهدا في النصح والمشورة، وقدم شبابه كل ما يستطيعون لإفشال تآمر المتآمرين ولمنع تراجع مسيرة الثورة، إلا أنه لم يلق آذانا صاغية ممن تصدروا قيادة الناس وعلى رأسهم قادة المنظومة الفصائلية الذين لم يلقوا بالاً للتحذيرات الشديدة من المكائد التي كادتها الدول لحرف مسار الثورة، سعيا منهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الدماء والتضحيات فسقطوا وأسقطوا الثورة في وحل التبعية الكاملة للدول ومخابراتها وتحولوا إلى عبيد عندها ينفذون أوامرها حتى أصبح من الصعب انفكاكهم، وأصبحت حركتهم مقيدة بأوامر "المعلم".
إن المتسلطين على قرار الثورة اليوم لم يجلبوا لها ولأهلها إلا المصائب بسبب ضيق تفكيرهم والسير خلف شهواتهم في السلطة والجاه والمال، متناسين أن السبب الرئيس لتشكيل فصائلهم هو نصرة الشعب لإسقاط النظام المستبد الذي ارتكب أعظم الجرائم بحق أهل الشام وخانهم واستجلب الجيوش والمليشيات لقتلهم والحفاظ على نظام علماني عميل يدفع شعبنا ثمن بقائه من دمائهم وأبنائهم. ولكن الفصائل التي تشكلت لإسقاط النظام غرقت في مستنقع الدعم والارتباط، فبدل أن تكون معول هدم للنظام وإعادة الحرية والكرامة لشعبنا أصبحت تتسلط عليه بجميع جوانب حياته وتضيق عليه في أمور حياته من أجل ترويضه للقبول بالعودة إلى نظام الإجرام من جديد.
إن الظلم والتسلط يجب أن يدفع الناس لعملية تغيير شاملة تطيح بكل ما صنعته الدول المتآمرة في الشام من عملاء يقتاتون على معاناة الناس باسم الثورة والجهاد.
المتابع لمجريات ثورة الشام وانتقالها من مرحلة مفصلية إلى مرحلة أخرى يدرك تماما خطورة المرحلة، والناس انتقلت من مرحلة التفكير إلى مرحلة كيف سيكون العمل وكيف سيكون التعامل مع أعداء الثورة الذين يلبسون لبوسها ويسوقونها إلى حتفها حيث التطبيع والمصالحة رغم ضعف النظام المجرم وحلفائه. بل أصبح الرأي العام السائد أن قادة المنظومة الفصائلية هم حائط السد الأول الذي يمنع إنجاز عملية التغيير وإسقاط النظام.
إن قيادات المنظومة الفصائلية المرتبطة لم يعد من أهدافها إسقاط النظام المجرم، بل أصبحت ترى الخطر في سقوط النظام، لأنها ستحاسَب حسابا عسيرا على خيانتها للشعب الذي أعطى الشرعية لتشكيلها للدفاع عنه، وإذ بها تتحول لحامي حدوده ومانع لأي جهد حقيقي يمكن أن يؤدي لتغيير الوقائع على الأرض في ظل ضنك العيش في المخيمات والحصار المفروض على السجن الصغير شمال غرب سوريا، وهؤلاء القادة أنفسهم لا يملكون التصور عن المرحلة القادمة إلا فيما تراه الدول وعلى رأسها تركيا ومن خلفها أمريكا التي أفصحت عما تريد بشكل مباشر عندما أوعزت للعرب باستقبال الطاغية في قمتهم المشئومة، ودفعت النظام التركي باتجاه مصالحة النظام السوري المجرم؛ والتي بدأت فعليا بذلك، في الوقت الذي ما زال قادة الفصائل يبيعون أهلنا في المحرر الأوهام ويعلنون بكل صراحة أن النظام التركي هو الحليف رغم جهره بمصالحة الأسد. وما كان هذا إلا بسبب جمود عملية التفكير والضعف والخوف من اتخاذ القرار الصحيح الذي ينقذ المركب من الغرق.
لكننا وفي خضم هذه الأحداث المتسارعة وتحول الفصائل عن قتال النظام المجرم إلى ملاحقة كل ثائر حر شريف وسياسي واعٍ، وهذا يدل على عظم المخاطر المقبلة على الثورة وأهلها، لا بد لنا من أن نضع النقاط على الحروف ونلفت الانتباه إلى أن ما بني على باطل فهو باطل، فقد كان تحويل قوة الثورة الذاتية المعتمدة على نفسها بعد الله إلى الدعم الخارجي الخليجي والتركي هو الخطأ الاستراتيجي للثورة التي أصبحت أسيرة هذه القوى، وما لم يتم إصلاح هذا الخطأ والعودة إلى الله والتوكل عليه والاعتصام بحبله مرة أخرى فلن نحقق أهداف ثورتنا ولن تتحرر من تسلط أعدائنا ولن نتمكن من متابعة طريقنا. وكل الشعارات الرنانة التي يطلقها الساسة المرتبطون بالخارج عن إسقاط النظام المجرم هي مجرد دجل ودعاية ممجوجة لا قيمة لها على أرض الواقع.
لقد أزال النظام التركي من قاموسه فكرة إسقاط النظام؛ وتبعا لذلك فإن فصائله تسير على طريقه الذي سيصل بها إلى أحضان النظام، ولا نقول هذا تجنيا أو طعنا بأحد بل هذا أصبح يراه المخلصون الذين يجب أن يبدؤوا، بالعمل لاستعادة القرار، والعمل المنظم في جميع المجالات مستعينين بالله على السير بالثورة نحو تحقيق أهدافها، وهذا لن يكون إلا بالسير خلف قيادة سياسية واعية مخلصة لا ترتبط بدول خارجية أو منظمات دولية، بل هي مرتبطة بالله وحده فكرا وشعورا وعقيدة وتعمل بكل طاقتها لإسقاط النظام المجرم وإعادة نظام الإسلام إلى الحياة، متوكلة على الله الذي لن يضيع الشام وأهلها فقد تكفل بهم، وإننا نرى نصر الله يلوح بالأفق ويبشر أهل الشام، أهل الإيمان؛ بأن الوعد الحق بالتمكين لدينه أصبح قاب قوسين أو أدنى ولمثل ذلك فليعمل العاملون.
رأيك في الموضوع