الجيوش هي القوة التي تستخدمها الأمة لنصرة دينها وتستخدمها الدولة لحماية كيانها، وتحقيق الأمن فيها ومواجهة أعدائها. والوضع الطبيعي أن تكون الدولة بنظامها معبرة عن عقيدة الأمة ونظامها، فإن كانت كذلك فلا إشكال لأن دور الجيش فيها يكون منسجما مع هذه العقيدة ونظامها فيحافظ على وحدة الأمة ويحمي ثغور الدولة ويدفع عنها عدوها ويحمل فكرتها إلى العالم.
أما إن كانت الدولة تحمل عقيدة غير عقيدة الأمة وتطبق أنظمة لا تنبثق من هذه العقيدة، واستخدمت الجيش لحماية نظم فاسدة، وأفكار وافدة وعقائد خليطة، أو كانت هذه النظم مدعية أنها تحمل عقيدة الأمة لكن ولاءها للكفار ظاهر بيّن لا تخطئه العين، وتستخدم الجيش خدمة لهذا الولاء، عندها تكون الإشكالية التي تعيشها الأمة اليوم مع جيوشها.
فالمسلمون اليوم في نظرتهم لهذه الجيوش اختلفوا اختلافا شديدا بينَ من يرى هذه الجيوش كافرة يجب قتالها والقضاء عليها؛ لأنها تحمي أفكار الكفر ونظمه وتحافظ على الأوضاع التي يريدها الكافر المستعمر، ويجعلون حكمهم على الحكام متعديا إلى الجيوش مستدلين بقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ وهذه الآية نزلت في جنود هم كفار أصلا ليس لأنهم عاونوا فرعون أو ناصروه بل لأنهم كفار مقيمون على دين كفر.
وهؤلاء الذين رأوا أن الجيوش كافرة حشدوا حشودهم وجمعوا من طاقات الأمة ما استطاعوا وصاروا يحاربون هذه الجيوش مستبيحين دماء أبنائهم، بل ويرون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله، يفرحون بقتل هؤلاء الجنود كأنهم يقتلون كفارا حربيين لا حرج في استباحة دمائهم!
والحق أن إجرام الحكام واستباحتهم للدماء وقتلهم للشباب في السجون لمجرد الانتماء السياسي، وأساليب التعذيب البشعة التي يمارسونها في سجونهم ويتخذون من أذنابهم وسيلة لذلك، قد مهّدت الطريق ليقول هؤلاء ما قالوا لأن إحساسهم العميق بالظلم الذي تنوء به الجبال، قد رسّخ في أنفسهم أن العذاب الذي يلقونه لا يمكن أن يصدر عن مسلم، فجعلوا كل من يعمل في أية مؤسسة تابعة لهذه الدول كافرا خالصا لا يُقبل منه صرف ولا عدل.
وفي المقابل فإن الأمة في غالبها ترى هذه الجيوش - رغم ما يقع من بعض أفرادها المبرمجين لخدمة الباطل، المسخرين لنصرة الحكام، دون تفكير ولا نظر - تراهم أبناءَ الأمة تم اختطافهم وتوجيههم في مسارات خادمة لحكام مجرمين ويرون استهداف هذه الجيوش خللا عظيما يسهّل على القوة الخادمة للاستعمار من حكامنا وللأوساط المحيطة بهم، تمرير دعواهم بأن الأمة تتهيأ للانقضاض عليهم هم والحكام، فلا بد أن يتصدى الجيش لأية حركة تستهدف التغيير قبل أن تظهر، وبالتالي تزداد العلاقة قوة بين الحكام العملاء والجيوش لأنهم يصبحون فريقا واحدا.
لذلك فإن الإعلان الدائم أن هذه الجيوش جيوشنا وأنهم أبناؤنا يقطع الطريق على الحكومات المارقة التي تطوع الجيوش لخدمة مصالحها. كما أن الأمة إذا استهدفت الجيش الذي هو معقل القوة ومحل المنعة فيها، فإنها تكون كمن يحطم جسده بنفسه!
ما هو الطريق لبعث الخير الكامن في الجيش:
مما لا شك فيه أن هذه الجيوش تكاد تكون هي خيارنا الوحيد للوصول إلى امتلاك إرادة الأمة السليمة، لأن كسب الجيش يعني كسب القوة التي تنصر الأمة وتمكنها من ملك إرادتها فعلا وتحطيم القوى المعادية وردها عن حياض المسلمين، لذلك ينبغي أن تنصبّ الجهود الحثيثة لتحطيم الحواجز بين الأمة وجيوشها حتى تستطيع الأمة أن تمتلك سلطانها المغتصب فعلا.
أما تحطيم الحواجز بين الأمة وجيوشها لاستخراج خيرها فيكون كما يأتي:
أولا: إيجاد القناعة الراسخة عند الجيوش كما هي لدى الأمة أن هؤلاء الحكام لا يحكمون بما أنزل الله ولا يرجعون حكمهم إلى عقيدة الإسلام، بل هم يروجون للانحلال والتفلت من ضوابط الشريعة ويشيعون الفواحش عمدا ويظهرون الفساد قصدا، وأن مساندتهم في هذا حرام لا تحل لأحد لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
ثانيا: بث مفاهيم الإسلام الفاعلة المحركة لهذه الجيوش، وترسيخ عقيدة الإسلام في خطابنا لها بدعوتها إلى تعظيم حكمه وشريعته، وإلى ضرورة التغيير بما تقتضيه عقيدة الإسلام، التي نعتز بها ونرتفع بجعلها مقياسا ومرجعا يرجع إليه في الأمور كلها، فنخاطبها بحرمة نصر الباطل وحرمة البغي على المسلمين وفظاعة الظلم والعدوان الذي يمارس ضد المسلمين، وأن الله لا ينصرنا بغير الأخذ بهذه المفاهيم قولا وعملا.
ودوام مخاطبة الجيوش بالمفاهيم الإسلامية المؤثرة الفاعلة كفيل بأن يزيل الغشاوة عن عيون هؤلاء الجنود الذين تغشاهم من الغفلة والتجهيل والتضليل ما جعلهم بعيدين عن جادة الهدى.
ثالثا: إبراز مواطن الفجور التي يأتيها حكامنا من ولاء للكفار وترويج لأباطيلهم وترسيخهم لأفكار الكفر في الإعلام ومناهج التعليم بل على منابر العلم والتوجيه، وبيان حقيقة العلاقات الراسخة بين حكام الأمة التابعين وبين أسيادهم الكفار الذين يوجهونهم، وذلك بفضح الأدوار المشبوهة التي يمارسها الحكام في بلاد المسلمين.
رابعا: إظهار الحالات التي تنعتق فيها الجيوش من إسار الأوامر الخبيثة وما يتبع هذا الانعتاق من العز والنصر الذي يتطلع إليه المسلمون، وتذكير هذه الجيوش بالحالات التي اختلفت فيها النتائج عندما خرجت الجيوش عن مساراتها كما حدث في معركة الكرامة على حدود فلسطين الشرقية وكما وقع في حرب 73 بين الجيش المصري وكيان يهود. وما حدث من مواقف مشرفة لجيوش المسلمين في التاريخ المعاصر.
خامسا: إظهار الآثار العظيمة التي تنشأ من آحاد الجنود والضباط عندما يخرجون من غفلتهم ويبصرون حقيقة عدوهم فيظهر ذلك في أعمال بطولية كما وقع من الجنود المصريين سليمان خاطر وأيمن حسن وكما وقع من الجنود الأردنيين ومنهم أحمد الدقامسة وما وقع أخيرا من الجندي المصري البطل محمد صلاح الذي لقن العدو الغاشم المعتدي درسا أرغمه على إعادة كل الحسابات، فكل هذا يثير الحياة من جديد في هذه الجيوش ويقوي من فرص صلاحها.
سادسا: دوام تذكير هذه الجيوش بالنكبات التي وقعت على الأمة من جراء متابعتها للحكام من فقر وضياع وتجهيل واغتصاب للحرائر وانتهاك للمقدسات ونهب للثروات وسفك للدماء وتسلط من السفهاء وحروب بينية طاحنة، وغير ذلك من المصائب التي يشيب لها الولدان.
سابعا: إظهار المواطن التي كان لجيوش المسلمين على مدى التاريخ فيها مواقف مؤثرة محققة للنصر وماحقة للظلم ومحاربة للفساد، وما أكثرها في تاريخ المسلمين.
ثامنا: بيان الخسران العظيم بطاعة هؤلاء الحكام العملاء وولائهم وأن النجاة عند الله تعالى تكون بمعصيتهم فيما يأمرون الناس به من الفساد والباطل.
وبالدوام على هذا نستطيع أن نثير الحياة في جيوش الأمة من جديد. لذلك ينبغي ألا تغيب هذه الأمور عن عيون الأمة وحملة الدعوة فيها حتى يكرمنا الله بخلافة على منهاج النبوة تستقيم بها أمورنا وتنشرح بها صدورنا وتعز بها أمتنا ويقوم بها ديننا.
بقلم: الشيخ يوسف مخارزة
رأيك في الموضوع