في الأول من كانون الثاني/يناير من كل عام تحتفل الحكومة في السودان بما يسمى بأعياد الاستقلال ويرفع علم السودان في الأماكن العامة وغيرها، ويعلن عن يوم إجازة بهذه المناسبة، وتضج وسائل الإعلام بأناشيد الاستقلال، والأقوال المكررة عن الاستقلال.
فهل نال السودان استقلاله فعلا حتى يفرح أهله بهذه المناسبة؟ لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أولا من الوقوف على معنى الاستقلال والاستعمار لنرى هل نلنا استقلالنا أم ما زلنا مستعمرين؟
ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ في اللغة: ﻣﺼﺪﺭ ﺳﺪﺍﺳﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻌﻞ ﻗﻞ ﻭﻫﻮ ﻋﻜﺲ ﻛﺜﺮ، ﻓﺎﻻﺳﺘﻘﻼﻝ ﺇﺫﻥ ﻫﻮ ﻃﻠﺐ ﺍﻟﻘﻠﺔ.
والاستعمار لغة هو من الإعمار وقد استخدمها القرآن ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾. فمعناها إعمار الأرض وإصلاحها وبناؤها، فالعمارة نقيض الخراب، مع أن الاستعمار الأوروبي لم يكن إعمارا بل كان دمارا وخرابا للأرض وساكنيها.
أما في الاصطلاح فيعرف الاستعمار بأنه "بسط الهيمنة العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية على الشعوب الضعيفة ونهب ثرواتها" أو هو "هيمنة دولة قوية على دولة ضعيفة ونهب خيراتها".
أما الاستقلال في الاصطلاح فهو "الانعتاق والتحرر وعدم التبعية"، ويعرف كذلك بأنه "انفراد الدولة المستقلة برأيها بعيدا عن تدخلات الدول المستعمرة".
والانعتاق والتحرر هو من المعاني الجميلة التي تميل لها النفس البشرية لأنها جبلت على رفض الظلم والاستعباد. ولو تحقق هذا المعنى في السودان لحق لأهله أن يفرحوا في بداية كل عام، ولكن الواقع أن الاستعمار قد غير شكله وجلده في السودان وسائر بلاد المسلمين، حيث خرج بجيوشه فقط ولكن ما زالت تدخلاته السياسية والاقتصادية والثقافية بل حتى العسكرية في كل بلاد المسلمين واضحة تثبت أن الاستعمار ما زال موجوداً. فسياسيا قضايا المسلمين السياسية ومشاكلهم تناقش في الأمم المتحدة التي أنشأها المستعمر ويهيمن عليها ويفرض بها سياساته على بلاد المسلمين فيعتمد العقوبات والمساعدات للقضايا والدول بحسب مصالحه. ويستطيع حتى التدخل عسكريا في أي بلد من بلاد المسلمين عبر ذراع الأمم المتحدة مجلس الأمن "البند السابع" كما حصل في العراق وأفغانستان. فالمستعمر لديه شرطة دولية (الإنتربول) ومحكمة دولية للدول "محكمة العدل الدولية" ومحكمة للأفراد "المحكمة الجنائية الدولية" وجيش دولي "قوات الأمم المتحدة". وثقافيا يفرض مواثيقه وقوانينه التي يسميها دولية وإنسانية كذبا وهي لا تعبر إلا عن ثقافته. فمثلا اتفاقية سيداو التي تتعلق بالمرأة يسعى لفرضها ويجبر الحكام العملاء على تضمينها في الدساتير والقوانين. وهذا ما نراه واضحا هذه الأيام في فلسطين والسودان وغيرهما. واقتصاديا يربط العملات بالدولار ويتدخل عبر مؤسساته الاقتصادية مثل صندوق النقد الدولي الذي يتدخل في سياسات الدول الاقتصادية، ويفرض عليها روشتاته المعروفة التي تفقر البلاد والتي نسمع عنها في كل بلد كخفض قيمة العملة المحلية وتوسعة المظلة الضريبية، وما يسمى برفع الدعم عن السلع والخدمات.
خرج المستعمر البريطاني من السودان طواعية وودع أهل البلد وركب القطار وغادر، وهذا لا يعني أنه لم يجد مقاومة ومحاولات من المخلصين لإخراجه كجمعية اللواء الأبيض. وكذلك خروجه من كثير من الدول كان باختياره وبدهاء من بريطانيا حتى تفوت الفرصة على الاتحاد السوفيتي وأمريكا اللتين نادتا بحق تقرير المصير للشعوب المستعمرة واستقلالها لتجدا موطئ قدم في هذه البلاد وتحلا محل الاستعمار الأوروبي. فلجأت بريطانيا وفرنسا للخروج من مستعمراتهما، وإعطائها استقلالا مزيفا، ولكن بعد أن ضمنتا أن البلاد ستسير وفق نظامهما وأفكارهما عن الحياة. وربطت بريطانيا مستعمراتها بالكومنولث وفرنسا بالفرانكفونية.
ولم يخرج المستعمر من السودان إلا بعد أن أوجد عملاء له درّسهم الفكر الغربي في كلية غردون - جامعة الخرطوم حالياً - وشكل وسطا سياسيا مواليا له، ووضع للسودان دستورها الأول الذي وضعه القاضي الإنجليزي بيكر وهو القانون الذي سمته الحكومة الأولى (حكومة الأزهري) دستوراً مؤقتاً وحكمت به. وجاءت الحكومات بعده تتبنى الدستور نفسه مع بعض التعديلات التي لا تمس الجوهر مثل شكل النظام الديمقراطي والبرلمان الذي أسسه المستعمر.
كذلك كان استقلال السودان انفصالاً عن مصر بحق تقرير المصير، الذي تلى الفترة الانتقالية لقانون الحكم الذاتي 1953م الذي وضعه المستعمر، وفكرة الاستقلال في بلاد المسلمين هي مرادفة لكلمة التقسيم والتمزيق فالذي جرى هو تقسيم للأمة الإسلامية على يد المستعمر الذي هدم الخلافة وورث تركتها فمزقها إلى بضع وخمسين قطعة جعل لكل قطعة علمها ونشيدها الوطني، حتى لا تفكر أن تعود دولة واحدة. ولعل هذا هو خطر هذه الحقبة من حقب الاستعمار على الأمة أنها لم تكن عسكرية فقط بل كانت سياسية واقتصادية وفكرية، فالمستعمر أدرك عن طريق المستشرقين أن المسلمين لا يمكن القضاء عليهم عسكريا فعمدوا إلى تغيير شكل الاستعمار الذي يعتبر أقل كلفة ويجعل سخط الأمة يتجه للحكام العملاء الذين عينهم المستعمر وليس للمستعمر.
وفي الناحية السياسية نجد البعثة الأممية "يونيتامس" مهمتها رعاية الانتقال في السودان، فهي التي تشرف على وضع دستور للسودان، وتراقب العملية الانتخابية، وتشرف على الوضع السياسي برمته في البلاد، وهذا تدخل واضح وصارخ. فهي التي وضعت دستور البلاد الذي يراد أن يكون دستوراً للفترة الانتقالية، فقد صرح رئيس البعثة فولكر في إحاطته للأمم المتحدة بتاريخ 8/01/2023 أنهم من قاموا بوضع مشروع دستور، ونسب للجنة التسييرية للمحامين السودانيين وقال إنهم أتوا بخبير دستوري أممي لكي يضع هذا الدستور.
أما اقتصاديا، فيصرح أحد خبراء الاقتصاد في السودان د. محمد الناير لجريدة الانتباهة في 1 كانون الثاني/يناير "أن السودان طبق 95% من روشتات صندوق النقد الدولي"، فالبلاد تسير في اقتصادها عبر إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي لديه مكتب في وزارة المالية يشرف ويراقب ويضع موازنات السودان بما يضمن تحقيق مصالحه.
أما كيف يكون الانعتاق الحقيقي والتحرر من المستعمر، فإنه يكون باقتلاع أنظمته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تعمل على هدم الأسرة وغيرها، وإقامة الحياة على أساس أحكام الإسلام في دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي تقتلع نفوذ الكافر المستعمر من بلادنا.
بقلم: المهندس باسل مصطفى- ولاية السودان
رأيك في الموضوع