نجحت أمريكا بما قامت به من أعمال سياسية واستفزازية خادعة من حشر روسيا بحيث لم تجعل لها مجالا سوى اجتياح أوكرانيا، في محاولة منها لاصطياد عصافير عدة بحجر واحد، مستغلة معاناة الرئيس الروسي من جنون العظمة دون امتلاكه لأوراق قوة تكفي لتحقيق حلمه بعودة روسيا دولة قوية ذات تأثير بالموقف الدولي.
إلا أن أمريكا وبسعيها لإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني، كانت ترنو بعينها إلى أوروبا لإحكام قبضتها عليها، وجرها للسير بالمشاريع التي تخدم مصلحتها، خصوصا بعد أن رأت من دول الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية محاولات جادة للانعتاق من هيمنتها، وتصريحات بعض قادة أوروبا بضرورة إيجاد قوة أوروبية موحدة تحمي المصالح الأوروبية. فقد سعت دول الاتحاد الأوروبي ونجحت في إيجاد عملة موحدة لها، وإلغاء الحدود فيما بينها فيما يعرف باتفاقية "الشنجل"، ومطالبتها بإنهاء حلف الشمال الأطلسي (الناتو) وأنه لم يعد هناك مبرر لوجوده بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو. وكانت هناك محاولات ودعوات جادة من بعض دول الاتحاد لإيجاد جيش أوروبي موحد يعمل على المحافظة على المصالح الأوروبية، بالإضافة لمحاولاتها إيجاد دستور أوروبي موحد. إلا أن ضعف القارة العجوز كان ظاهرا لكل متابع، وأن الانقسامات بين دوله واضحة وضوح الشمس، يصدق فيهم قول الله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾.
لذلك سعى قادة دول الاتحاد الأوروبي ومنذ ظهور مؤشرات الأزمة الروسية الأوكرانية لثني روسيا عن محاربة أوكرانيا، ثم محاولة وقف المعارك بعد اندلاعها. فقد توالت لقاءات واتصالات الساسة الأوروبيين؛ من الرئيس الفرنسي إلى المستشار الألماني وغيرهما، إلا أن جهودهم ذهبت أدراج الرياح وباءت محاولاتهم بفشل ذريع أظهرت مدى الضعف الذي وصلوا إليه، ما دفع رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين للقول: "بأن مصير أوروبا على المحك"، وتصريح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن يوم اجتياح روسيا لأوكرانيا هو يوم أسود لأوروبا.
فبعد أن كانت إمدادات الطاقة لأوروبا تأتي وبأسعار معقولة من روسيا، (حيث تستورد أوروبا حوالي 40% من الغاز، و27% من النفط)، وأسعار السلع لشعوبها مقبولة، وكانت تحلم بإيجاد قوة عسكرية أوروبية موحدة، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا لينهي هذا الحلم، ويبقي حلف الناتو بقيادة أمريكا مطلبا أوروبيا لحفظ أمنها، وعاملا على زيادة غير محتملة لأسعار الطاقة، وصاعدا بمؤشر التضخم لمستويات غير معهودة، ودافعا لموجة لجوء جديدة لدوله تستنزف طاقاته واقتصاده، ومظهرا ما كان مخفيا تحت الطاولة من انقسامات في هذا الاتحاد الهش، مجبرا قادته الخضوع للضغط الأمريكي وضغط الرأي العام الأوروبي لفرض حزمة من العقوبات على روسيا طالت آثارها السلبية الشعوب الأوروبية قبل أن تصل الشعب الروسي، وكاشفة عن زيادة كبيرة في تذمر الشعوب الأوروبية من القيادات السياسية.
فاندفعت ألمانيا لزيادة الإنفاق العسكري لأكثر من 2% من الناتج المحلي تلبية لطلب أمريكا، ووقفت فرنسا بلا حول ولا قوة بعد أن فشل رئيسها في ثني بوتين على خوض الحرب، واندفعوا وغيرهم من دول الاتحاد بإرسال بعض العتاد العسكري الدفاعي لأوكرانيا.
إن الحرب الروسية الأوكرانية وإن أغرقت روسيا بالمستنقع، إلا أنها بينت الضعف الذي يجتاح القارة العجوز والانقسامات بين دوله، وأظهرت الخلافات السياسية والعقد القومية، وأقرت الاحتياج الأوروبي للبقاء تحت المظلة الأمريكية حفاظا على أمنهم وضمان استمرار تدفق الطاقة لديهم، ممهدا الطريق لأمريكا بإمكانية زج الناتو في مواجهته للصين، وكاشفا عن احتمالية تصدع الاتحاد الأوروبي وانفكاك عقده وإلغاء عملته، وعودة ما بقي من دوله تحت العباءة الأمريكية تنفذ لها ما تطلبه، وهذا ما ستظهره الأيام القادمة.
أما بالنسبة لبريطانيا والتي تعتبر شيئا آخر مختلفاً عن الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد خروجها منه، فهي على عداء تاريخي مع روسيا، تسعى كنافخ الكير لإضعاف روسيا. وهي تعمل على تشويش وعرقلة الاتحاد الأوروبي، وتسعى قبل وبعد خروجها منه لتفكيكه، وضمن هذا السياق يفهم اقتراح رئيس وزراء بريطانيا بإنشاء تحالف جديد بديل عن الاتحاد الأوروبي يضم أوكرانيا ودول البلطيق وغيرهم.
هذا هو النظام الرأسمالي؛ نظام استعماري يقوم على التنافس وجعل الشعوب وقودا للصراعات حتى لو تظاهر بالصداقات، فهو نظام خطر على العالم يولد الحروب والأزمات والكراهية بين الشعوب، ولا وجود فيه للقيم سوى القيمة المادية، ويكشف بأن الحديث عن الاستقلال وتقرير المصير وحقوق الإنسان وغيرها من الشعارات ما هي إلا ستار دخان لسياسته الدنيئة، ومؤكدا انحطاطا ما بعده انحطاط لقياداته.
وسيستمر هذا الوضع السيئ والضنك الشديد دافعا الشعوب لنبذ هذا النظام البشع وإلقائه في هاوية سحيقة، والتوجه نحو نظام يليق بالإنسان، يقنع عقله ويوافق فطرته ويملأ قلبه طمأنينة. نظام يعاد فيه حكم الله الحق على المسرح العالمي بدولة خلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة، نظام بدأت خيوط نوره تبدد ظلمة الرأسمالية الفاسدة، ومبشرة بغد قريب مشرق بإذن الله ينشر العدل والطمأنينة في ربوع الأرض، يحق الحق ويبطل الباطل، وما ذلك على الله بعزيز.
قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
بقلم: د. عبد الله ناصر
رأيك في الموضوع