تحولت الاحتجاجات التي اندلعت في تونس بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة لأعمال شغب في مدن عدة. وقد تبادلت قيادات حزبية ومنظمات وشخصيات سياسية الاتهامات حول ما يحدث من نهب وتخريب. فالحزام السياسي للحكومة يتهم أطرافا يسارية بالتجييش لهذه الأعمال ويروج لمحاولة انقلابية على الشرعية، نافيا أن يكون هذا الحراك ثوريا. بينما توجه العديد من الأطراف أصابع الاتهام إلى الأحزاب الحاكمة منذ الثورة وخاصة حركة النهضة محملة إياها مسؤولية فشل تحقيق أهداف الشعب الثائر ومعتبرة أن التحركات إرهاصات ثورة ثانية على هذه الأحزاب. أما رئيس الحكومة فقد لون موقفه بين تفهم احتجاجات الشباب ورفضه للنهب والتخريب، واعداً الشباب بحلول فعلية لمشاكلهم متوعدا بتطبيق القانون. وبقي موقف رئيس الدولة خارج السربين، إذ اتهم اليهود حسب ما جاء في مؤتمر الحاخامات الأوروبيين بالسرقة والوقوف وراء أعمال الشغب، لعلها رؤية من كوكب آخر! إزاء هذه الصورة الضبابية والمواقف المتناقضة نناقش الإشكاليات التالية:
- ما هي أسباب هذه الاحتجاجات وما هي أهدافها؟
- كيف يستغلها الوسط السياسي؟
- ما هو السبيل الوحيد لتحقق الثورة غايتها؟
1- إن الاحتجاجات في تونس لم تتوقف منذ الثورة، منها احتجاجات تلقائية شعبية وبعضها مفتعل من أطراف سياسية. أما العفوية الشعبية، فأسبابها تعود إلى أصل واحد، وهو أن النظام بعد الثورة بدل أن يحقق أهداف الناس في التحرر والعدل والرعاية والأمن والرفاهية والنهضة والوحدة زاد في إذلالهم وترهيبهم وإفساد حكامهم وربطهم بالاستعمار وتفقيرهم وتفريقهم. لذلك بقي الشعب في العديد من المناسبات يعبر على مواصلته سياق ثورته بهذه الاحتجاجات بهدف إسقاط النظام. أما التحركات المفتعلة فسببها الرئيسي خلق التوازنات بين فئات متصارعة على الحكم بهدف الإبقاء على النظام الرأسمالي الذي ترعاه الدول الاستعمارية والحيلولة دون إسقاطه وإقامة نظام تحرر حقيقي مع الأهداف الذاتية لكل فئة، من ظفر بجزء أوفر من السلطة أو محاربة فئة أخرى.
2- إن الوسط السياسي في تونس رغم ما يفرقه في الظاهر فهو موحد في موقفه من النظام القائم في البلاد. فرغم الصراعات الحادة بين الإسلاميين واليساريين والليبراليين الحداثيين، فإن الكل يرضى بتطبيق النظام الرأسمالي الذي ترعاه الدول الغربية الاستعمارية ويرضى بروابط التبعية للدول المهيمنة على سلطان العالم. بل جميعهم يعادون سلطان الإسلام البديل الوحيد للنظام الرأسمالي بعد سقوط الشيوعية. فالإسلاميون خاصة حركة النهضة يجارون الاحتجاجات ويلعبون دور الضحية ويركزون على الانقلاب على شرعية الانتخابات من طرف الساقطين فيها، والنهضة بالنسبة للاستعمار حجر الزاوية للحفاظ على التوازن في السلطة. أما اليساريون فيمثلون قطبا من أقطاب التجاذب التي يقسم بها الاستعمار وحدة الشعب ويبقي جزءا مهما من الناس داخل الحقل المغناطيسي للوسط السياسي الذي أنشأه الاستعمار. لكن هذا القطب خسر كثيرا من جاذبيته حتى أصبح اليسار ينعت بـ"الصفر فاصل".
فهو يجد في هذه الاحتجاجات التي يجيش لها الشباب المهمش الناقم على وضعه وهْم شرعية شعبية يزايد بها على الأطراف الحاكمة. ويجد في اتحاد الشغل جامعا لشتاته المتناثر ومحفزا لحركته المرفوضة شعبيا خاصة حين يربط هذه الحركة بتاريخ العمال ونضالاتهم في شهر كانون الثاني/يناير، بعدها تخبو ناره وتستمر معادلة التوازن. أما من يختفون وراء شعار الحداثة والليبرالية فما هم إلا بقايا التجمع والحزب الدستوري الذين أقصتهم الثورة عن الحكم والسياسة لكن الاستعمار اعترافا بإخلاصهم له منع طردهم برفض قانون العزل السياسي وجعلهم شركاء الإسلاميين في السلطة. هؤلاء إن كانوا في الحكم كحال "قلب تونس" رفضوا الاحتجاجات واعتبروها تخريبا وانقلابا، وإن كانوا في المعارضة كـ"الدستوري الحر" كفاهم بعض النباح على حركة النهضة والتباكي على أوضاع البلاد عامة والشباب خاصة. فالوسط السياسي يوظف هذه التجاذبات القطبية لتبديل حقيقة الصراع من صراع بين الشعب ونظام رأسمالي ظالم تسبب في كل أزماته إلى صراع بين فئات مقسمة من الشعب وبهذا يضمن بقاءه في سلطة لا تحق له لأنه وسط مرتهن للعدو، عاجز على التخطيط الذاتي بل يمثل إدارة للمسؤول الكبير ولا يمتلك أي عقيدة للتغيير الحقيقي.
3- إن السير في تنفيذ خطط الاستعمار في بلادنا كتفريط الدولة في القطاعات العمومية لصالح الخواص من الشركات الأجنبية الناهبة أو المحلية وإجراء الإصلاحات الكبرى الهيكلية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والتمادي في التداين الأجنبي، والتوافق على قانون ميزانية لا يحدد التوازن بين النفقات والموارد ويُمرَّر في لحظة هدوء، كل العواصف السياسية بعصا الاستعمار السحرية، وتقسيم الشعب عبر تجاذبات قطبية مفتعلة حتى لا يتوحد في إتمام مساره الثوري، لن يحقق لهذه الدولة قوة ولا رفاهاً ولا أمناً وستبقى متخلفة، تابعة، عاجزة عن تحقيق آمال شعبها. بل الواضح من سياسة الغرب تجاه تونس أنهم يعملون على تركها تتخبط في هذا العجز ربما إلى حدّ الإفلاس الاقتصادي لإحكام القبضة على هذا الشعب وعقابه على ثورته على النظام الاستعماري.
إن السبيل الوحيد لتحقق الثورة غايتها يكمن في إسقاط النظام الرأسمالي المفروض على تونس من طرف القوى الاستعمارية منذ غياب سلطان الإسلام عليها واقتطاعها من محيطها الإسلامي في دولة الخلافة، واقتلاع النفوذ الغربي بجذوره الفكرية والثقافية والتشريعية والسياسية، وهذا هو المعنى الحقيقي لشعار الثورة "إسقاط النظام" وإقامة نظام الحق والرعاية والعدل والكرامة الذي فرضه الله سبحانه وتعالى على الناس عامة وعلى المسلمين بخاصة. فلا يكون الشعب عبدا للاستعمار ولكن يكون عبدا لخالقه العادل، العليم الخبير. وهذا هو مفهوم "إسقاط النظام" الذي لم يصرح به الشعب ولكنه يقصده لأنه لم يكن يبحث عن الفوضى بغياب النظام وليس له خيار عن النظام الإسلامي القائم على عقيدته والباني لأمجاده التاريخية وأبطاله السابقين. وستبقى إرهاصات هذه الثورة حتى يكرمها الله بأهل قوة مؤمنين مخلصين صادقين ينتزعون السلطان من إدارة الاستعمار ويضعونه بين أيدي العاملين على إقامة الخلافة الرشدة الثانية على منهاج النبوة حتى تباشر الأمة من جديد دورها الحضاري العظيم باستئناف الحياة الإسلامية وحمل دعوة الإسلام إلى العالم. ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ سعيد خشارم
عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع