إن حقيقة الأزمة الاقتصادية في العراق بدأت مع نهايات الحرب العراقية الإيرانية من جراء النفقات الحربية التي استمرت ثمان سنوات والتي كان من نتائجها انخفاض نسبة كبيرة من الاحتياطي النقدي والغطاء المعدني من الذهب مع انخفاض قيمة النفط عالميا وإغراق السوق النفطية من دول الأوبك وخفض أسعاره وخاصة الكويت بدفع من الغرب وأمريكا، مما أوجد المبرر لصدام حسين لاجتياح الكويت، وكانت النتيجة حرباً مدمرة على العراق وحصاراً دولياً استمر سنوات طويلة من عام 1990 حتى الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، فكانت بداية لتفاقم الأزمة الاقتصادية والتي اتضحت على إثر احتلال أمريكا للعراق.
فقد كان لهذا الحصار آثاره السلبية على جميع الجوانب الاقتصادية (الزراعية والصناعية والخدمية والوظيفية والنقدية)، وكان له الأثر الكبير والمدمر على المستوى المعاشي للفرد العراقي وضعف الدولة؛ فعلى الصعيد الزراعي فقد توقفت الكثير من المشاريع الزراعية الإروائية كمشروع ري الجزيرة الثاني وسد بادوش والمنصورية ومشاريع الوسط والجنوب وضعف كري الجداول والمبازل والأنهار وإصلاح الأراضي إلا من بعض المساعدات التي تقدمها الدولة للفلاح كالسماد ورفع قيمة الحبوب (الحنطة والشعير) والذي بدوره استطاع أن يسد جزءا من حاجة الناس وخاصة من الخبز السلعة الأساسية للشعب.
أما الجانب الصناعي فقد تعطلت الصناعة كليا وتوقفت مشاريعها ومعاملها الحكومية والأهلية والتي كانت تعتبر مصدر رزق كبيراً لعدد كبير من الناس كفرص عمل خارج إطار الدولة وخاصة الأهلية منها إضافة إلى ما تجنيه الدولة من ضرائب على إنتاج هذه البضائع.
أما الصادرات والرسوم الجمركية من المنافذ الحدودية والترانزيت فقد توقفت كليا وأولها النفط والمعادن الأخرى كالكبريت والفوسفات.. الخ، وبهذا كله فقد العراق مردوداً مالياً كبيراً تعدى انخفاض قيمة النفط وأصبح الشعب العراقي يعاني لقمة العيش وتوفيرها إلى أن وقعت اتفاقية النفط مقابل الغذاء وهو برنامج الأمم المتحدة، الصادر بموجب قرار مجلس الأمن رقم 986، لعام 1995والتي وفرت جزءاً يسيراً للعراقيين من متطلبات العيش الغذائية فقط بسبب الحصار الأمريكي والذي كان وسيلة للهيمنة على العراق ونهب خيراته، وأصبح الفرد العراقي بمستوى معاشي منخفض جدا بسبب الحصار الاقتصادي وانخفاض قيمة الدينار العراقي عالميا ومحليا حتى وصل إلى ما يقارب 3000 دينار للدولار الواحد خاصة بعدما أقدم العراق على طبع عملته بنفسه، علما أن راتب الموظف يتراوح ما بين 10 آلاف إلى 20 ألف دينار على أحسن الأحوال والذي لا يكفي لسد الحاجة ليومين أو ثلاثة أيام لعائلة تتكون من خمسة أفراد.
ولقد أدى هذا الوضع الاقتصادي عموما إلى انتشار السرقة والرشوة في دوائر الدولة مع غضها الطرف عن هذه الأمور لضعفها وعدم قدرتها على تقديم الخدمات، وقد ارتفعت هذه الظاهرة على إثر الاحتلال الأمريكي للعراق، فمع بداية دخولها جعلت العراق فوضى وتركت المؤسسات والدوائر الحكومية والمصارف للنهب باستثناء وزارة النفط فقد قامت بحمايتها وتركت الناس تعبث في الدوائر والمؤسسات تحت مفهوم الحرية والانتقام من الدكتاتورية، إلا أنها في الحقيقة كانت تهدف إلى زرع مفهوم معين عند الناس وهو التجاوز على المال العام والتشجيع على السرقة وتشغيل الناس لديها كجواسيس وإغداق المال عليهم لإيجاد المؤيدين لمشروعها والتي كانت قد جهزته ووضعت دستوره قبل احتلال العراق بسنين مع وسطها السياسي الذي جلبته معها على ظهر الدبابات فأنشأت منهم أحزابا وأغدقت عليهم الأموال من خلال الصلاحيات المستمدة من الدستور القائم على الطائفية والعرقية والمحاصصة في كل شيء والذي نتج عنه اقتسام لموارد الدولة وسرقتها من هؤلاء السياسيين ومؤيديهم باسم مكوناتهم، فأصبح المال همهم الوحيد مما زاد الفساد فسادا، وارتبط الناس بهذه الأحزاب للحصول على وظيفة خاصة بعد أن عملت أمريكا على رفع رواتب الموظفين حتى بلغ كحد أدنى 500 ألف دينار عراقي فارتفع عدد الموظفين نتيجة إقبال الناس على الوظائف وعزوفهم عن أعمال الزراعة والصناعة فتركت الأراضي وجرفت المزارع وباعها أصحابها، فباتت منازل للمتنفذين والسياسيين، وأصبح البلد يستورد أكثر ما يحتاجه غذائيا من الخارج حتى الفجل والكرافس، وأصبح مهددا في غذائه في أي لحظة.
أما الصناعة فبدل أن تقوم الدولة بإعادة تشغيل المعامل المتوقفة طيلة فترة الحصار وإعانة الناس على تشغيل المعامل الأهلية، فإنها فتحت الباب أمام البضائع الأجنبية وبأسعار زهيدة تقضي على منافسة الإنتاج المحلي.
كل ذلك وفي المجالين الزراعي والصناعي أدى إلى إيجاد فائض في الأيدي العاملة وشاعت البطالة ولا يوجد إلا باب واحد أمامها هو باب الوظيفة حتى صار عدد الموظفين في الدولة عبئا عليها، وكل هذا الوضع أوجدته أمريكا لإخضاع الناس لها وقبولهم بهيمنتها ووجودها في البلد.
وأصبح كل الوضع الاقتصادي والمالي في العراق مرتبطاً بالدينار العراقي وقيمته والتي هي أساسا مرتبطة بالدولار فإن أي انخفاض للدينار بقصد أو بغير قصد ستكون النتيجة كارثية على الشعب العراقي بسبب الأزمة المالية التي يعانيها والتي سببها المنظومة السياسية والسياسيون السراق، فبسبب الأزمة المالية التي عصفت بالبلد حتى باتت الدولة عاجزة عن تأمين رواتب الموظفين وانتظار عدد كبير من العاطلين لتوظيفهم، أقدمت الدولة على خفض قيمة الدينار العراقي بحجة أن ذلك سيوفر لها أموالا تسد بها العجز الحاصل، وكذلك من جانب آخر أن ارتفاع الدولار سيعمل على خفض كمية الاستيراد من الخارج كما تدعي وتشجيع الزراعة والصناعة المحلية، من دون أن نلاحظ أي إجراءات فعلية على أرض الواقع تخص أصحاب الأراضي والمصانع والتي من المفترض أن تسبق هذا الإعلان، وهو في الحقيقة يسعى إلى هدف واحد هو إيجاد فائض من الأموال للدولة عن طريق بيع الدولار في سوق العملة والبنوك المصرفية لسد العجز من أجل دفع الرواتب للموظفين والمتقاعدين، وغاب عن حساباتهم أن هذا الإجراء مرهون لوقت معين ثم تعود الأزمة من جديد مع أزمة ازدياد العاطلين عن العمل وتذبذب الدولار.
وفي الحقيقة الكل يعلم أن المخطط لكل سياسات العراق هو المحتل الأمريكي عن طريق مستشاريه بالوزارات العراقية والتي تهدف إلى تدمير العراق اقتصاديا وإفقار شعبه ليبقى تابعا ذليلا له، وإن هذا الحل لجعل جل الشعب العراقي فقيرا معدما وسرقة جهده بعد سرقة بلده مع وجود طبقة تزداد ثراء من السياسيين ورؤساء الأحزاب والكتل المهيمنة على البلد والخادمة لمصالح المحتل الأمريكي.
ومن كل ما تقدم نقول إنه لا حل لهذه الأزمة حتى يقوم نظام سياسي عادل هو نظام الإسلام في ظل الخلافة على منهاج النبوة ويعود العراق ولاية من ولايات هذه الدولة الكفيلة بالقضاء على جميع الأزمات ومنها هذه الأزمة.
بقلم: الأستاذ محمد الحمداني – الموصل
رأيك في الموضوع