انتهينا في المقال السابق حول اشتداد الصراع على الأردن من خلال جمال عبد الناصر عميل أمريكا القوي، والحقيقة أن الصراع كان بين أمريكا وبريطانيا؛ محاولة من أمريكا إخراج النفوذ الإنجليزي من الأردن، ويعود سبب الصراع على الأردن إلى:
أولاً: تبني أمريكا المبدأ الرأسمالي.
ثانياً: التغير في الموقف الدولي، وظهور أمريكا والاتحاد السوفيتي وتراجع بريطانيا وفرنسا.
ثالثاً: الثروة المذهلة في الأردن في باطن الأرض وفي المياه.
أما بالنسبة للنقطة الأولى؛ فإن "أخطر دوافع الصراع بين الدول هو دافع الاستعمار بجميع أشكاله، فإنه هو الذي سبَّبَ الحروب الصغيرة، وهو الذي سبَّبَ الحربين العالميتين، وهو الذي سبَّب حروب الخليج، وحروب أفريقيا، وهو الذي سبب حرب أفغانستان والعراق، وهو الذي ما زال يُسبِّب القلاقل والأزمات في العالم. والتنافس والتشاحن والتصارع الموجود اليوم بين أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا، الظاهر منها والخفي حول قضايا العراق وأفغانستان والشرق الأوسط وغيرها من القضايا الدولية؛ إنما هو من أجل الاستعمار، ومن أجل السيطرة على المنافع والموارد، لذلك فإن الاستعمار هو الذي يتحكم في الصراع الدولي الآن، بما يتضمنه من نزاع على الموارد وصراع على النفوذ وتنافس على السيطرة بكافة أشكالها وأنواعها، والحقيقة أن الركض وراء المنافع المادية، وخاصة النهم الاستعماري هو الذي أوجد الصراع السياسي بين الدول الكبرى".
ومتابعة للنقطة الأولى: فقد كانت مساحة أمريكا وثرواتها الضخمة وإمكانياتها سبباً "في صراع مرير مع الدول الأوروبية التي كانت تستعمره، وبالذات مع إنجلترا، ونال استقلاله بقوة السلاح عن وعي وإدراك، وقد أوجد هذا عند الأمريكيين سجايا من أهمها ما يعرف بالبراغماتية، أي فلسفة الذرائع، ووجد فيه على أثر مقاومته للاستعمار الأوروبي ميل للقيم الرفيعة وتقدير لها. إلا أن الشعب الأمريكي اعتنق المبدأ الرأسمالي فصار يتجاذبه عاملان: عامل القناعة والعفة، وعامل النفعية والاستعمار. وكانت بريطانيا تستغل فيه العامل الأول؛ فتسخره ليكون قوة لها في الحرب والاقتصاد، حين كان العامل الأول هو الذي يتحكم فيه وهذا كان في البداية. وما إن جاءت الحرب العالمية الثانية، وتذوَّق الشعب الأمريكي طعم الاستعمار في نفط الخليج حتى تغلب عليه العامل الثاني وهو عامل النفعية للاستعمار، وسيَّره المبدأ الرأسمالي فخرج من عزلته لاستعمار الشعوب، وإخضاع العالم لسيطرته ونفوذه، ومنها منطقة الشرق الأوسط وخاصة الأردن معقل النفوذ الإنجليزي وقاعدته العريقة، ودوره في كل من العراق وسوريا والخليج، ومحاولته ضرب النفوذ الأمريكي في مصر من خلال ضرب جمال عبد الناصر الذي اشتد الصراع في وقته بين الأردن ومصر، لذا كان الأردن ملاذاً لجميع من قاموا بأعمال ضد النفوذ الأمريكي، ورد الانقلابات في سوريا والعراق وتثبيت النفوذ الإنجليزي في الخليج وقد كان الأردن المطبخ الإنجليزي الذي فيه تحاك المؤامرات وتصنع الأدوات والعملاء ثم تنطلق إلى بلادها حسب الدور المرسوم لها.
أما السبب الآخر فيعود لتغير الموقف الدولي وبروز الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، والدور الخبيث لبريطانيا في الصراع، حيث "أدركت أمريكا أن إنجلترا تعمل ضدها وتحاول مزاحمتها على المغانم، ورأت أن حالة الحرب الباردة القائمة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي هي حالة منهكة لقواها، فهي حالة ليست بالحرب، فتنصرف إلى الإعدادات العسكرية عن التنمية الاقتصادية وليست بالسلم، فتنصرف إلى التنمية الاقتصادية عن الإعدادات العسكرية، بل هي حالة بين السلم والحرب، وهي تستهلك ثروة هائلة من ثروات الدولة في سبيل الإعداد العسكري لشيء وهمي، أي لحرب غير معروف أنها ستقع.
وإلى جانب ذلك رأت أمريكا أن إنجلترا بالذات هي التي تضرم نار هذه الحرب الباردة وتؤرثها، وأن قصدها من ذلك إبقاء أمريكا في حالة تستنزف معها ثروتها وإمكانياتها فتضعف تدريجياً، ويحصل حينئذ الإخلال بالتوازن الدولي، وأدركت أمريكا أن مصلحتها هي في التقارب مع روسيا (الشيوعية) ضد بريطانيا (الرأسمالية). وحيث إن مفاسد الرأسمالية متراكمة كذلك، ولأن (النفعية) هي في أعلى سلم القيم عند الرأسماليين، حيث لا قيمة ثابتة عندهم، بل لهاث وراء المصالح المادية؛ لذلك صارت أمريكا هي أيضاً تحاول تضييق شقة الخلاف بينها وبين روسيا (الاتحاد السوفياتي) وأخذت تحاول الدخول معها بمفاوضات ولقاءات واتفاقيات، واتفقتا على إخراج النفوذ القديم كله، وعليه فيمكن القول: إن الصراع على الشرق الأوسط، بعد الحرب العالمية الثانية، كان مركّزاً بفاعلية بين أمريكا وبريطانيا على النحو التالي:
لقد ظلت السياسات الأمريكية والبريطانية في قضية الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سائرتين بطريق المشاركة، وكانت الدولتان تجتمعان وتتذاكران في سياساتهما وتنسقان الخطط والأساليب بينهما، وظلت بريطانيا تسمح لأمريكا بالْتِهَام بعض المنافع خاصة في نفط الجزيرة العربية، وظلت تسايرها في بعض الأحيان، ولكنها كانت تقف في وجهها فيما تعتبره مضراً بمصالحها".
"بعد انقلاب حسني الزعيم، وبعد اشتداد مقاومة إنجلترا لجميع المشاريع الأمريكية وتحول الصراع الخفي القائم بين الدولتين إلى صراع شبه علني، رأى ممثلو أمريكا الدبلوماسيون في الشرق الأوسط ما يتهدد مصالح أمريكا العسكرية والاقتصادية في المنطقة، ورأوا أن بقاء السياسة الأمريكية جنباً إلى جنب مع السياسة البريطانية معناه بقاء أمريكا، كما كانت قبل الحرب العالمية الثانية أداةً مسخرةً لإنجلترا، تكتفي بإعطائها طُعْماً صغيراً لإيقافها في المنطقة وتدافع عنها، وتحرمها من كل خيرات المنطقة وتبقي المنطقة كلها تحت سيطرة إنجلترا وحدها، وبعد دراسة هذا الواقع رأى الدبلوماسيون الأمريكيون المعتمَدون لدى المجموعة العربية ذلك، فأيقنوا أنه لا بد من إدخال تعديلات أساسية على توجيه سياسة واشنطن وتنقيحها تنقيحاً جديداً.
في سنة 1952م حصلت انتخابات الرئاسة في أمريكا، فنجح الحزب الجمهوري في الرئاسة بشخص أيزنهاور، فتولى الحكم في بداية سنة 1953م، وبتوليه الحكم اشتد الصراع بين إنجلترا وأمريكا؛ لأن أيزنهاور معروف بتقديمه المصلحة الأمريكية العليا في وجهيها العسكري والدولي على الضغط اليهودي والبريطاني؛ ولذلك اتخذ النزاع بين الدولتين أمريكا وإنجلترا شكلاً حاداً، وكان من أهم مظاهره أخذ أمريكا لمصر من بريطانيا، ثم طرد الأخيرة منها. وكانت أمريكا قبل ذلك قد قامت بانقلاب في سوريا جاء بعميلها أديب الشيشكلي إلى الحكم، وبذلك صارت مصر وسوريا مع أمريكا.
ولذلك رأوا أنه لا بد من معالجة هذه المشاكل قبل التفكير الجدي وقبل البدء بتحويل المنطقة من قاعدة إنجليزية إلى قاعدة أمريكية؛ ولذلك دعوا لعقد مؤتمر منهم لبحث هذا الموضوع. وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1950م عقدوا أول مؤتمر لهم في إسطنبول، وتولى رئاسة المؤتمر المستر جورج ماغي الوكيل في وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية، واستمر هذا المؤتمر مدة خمسة أيام متوالية، وقد استعرضوا في هذا المؤتمر السري أبرز الأوضاع السياسية والاستراتيجية والاقتصادية لهذه المنطقة، فاستقر رأيهم على أنه لا سبيل لبقاء السياسة الأمريكية مرتبطة بالسياسة البريطانية، إذا كانت تريد فعلاً تحويل الشرق الأوسط إلى قاعدة أمريكية، ولما تم وضع هذه الدراسة موضع التطبيق في عهد أيزنهاور بالذات؛ انفصلت السياسة الأمريكية عن البريطانية فصلاً تاماً، وظهر الصراع بينهما بشكل علني، وكان الأردن من أعظم الأمكنة التي يجري عليها الصراع بين أمريكا وإنجلترا لكونه القاعدة الإنجليزية العريقة وذات الأدوار لمصلحة النفوذ البريطاني والوقوف في وجه المشاريع الأمريكية وتهديد النفوذ الجديد والاستعمار الجديد بخلاف غيره من الدول العميلة لبريطانيا والتي كانت تنتظر التوصيات والقرارات من الأردن، وهذا الدور والعمل لفت انتباه الأمريكان بشكل كبير فكان لا بد من الاهتمام الأمريكي بالأردن لمنع دوره بداية في إيذاء النفوذ الأمريكي ثم محاولة أخذه من يد الإنجليز إذ كان الأردن من أشد مناطق الصراع بين الاستعمار القديم والجديد، لما فيه من الثروة المذهلة في باطن الأرض وتحت المياه، ولقربه من كيان يهود وضرب مشروع أمريكا بحل الدولتين قديما والعمل على مشروع الإنجليز الدولة العلمانية الواحدة.
... يتبع الجزء الثالث: الثروات المذهلة في باطن الأرض
بقلم: الأستاذ المعتصم بالله أبو دجانة
رأيك في الموضوع