(الجزء الثاني)
لقد تبين للمتتبع مدى جدية أمريكا بأخذ الأردن، وطرد النفوذ الإنجليزي القديم، فقد باتت أمريكا غير راضية حتى عن الخدمات المقدمة لها من عملاء الإنجليز، بل تريد الأمر لها كله دون تشويش، فعادت إلى ما كانت عليه من مثل محاولات خمسينات القرن الماضي في أخذ الحكم في الأردن والدخول برجالها إلى القصر.
إنه بعد إدراك أمريكا لتهرب النظام في الأردن من الإصلاحات؛ خاصة بعد التعديلات الدستورية التي وسعت صلاحيات الملك، حيث كانت بمثابة إفشال لمساعي أمريكا الرامية إلى فرض رجالاتها عن طريق انتخابات برلمانية أو حكومة دستورية، فأصبح رئيس الحكومة بمثابة رئيس بلدية لا حصة له في الحكم إلا الصورة الاستعراضية.
فنتج عن ذلك أن انتقلت الصلاحيات من الحكومة إلى رأس النظام المتمثل بالملك فأصبحت الحكومة في الواجهة، وصار الملك فوق السؤال وفوق المحاسبة فكان المقتل السياسي. كما ونتج عن ذلك حراك وتجاذب وارتباك وتخبط، وأزمات تلو الأزمات ظاهرها الاقتصاد، ولكنها في حقيقتها أزمة صراع الأعداء وصراع الكبار على النفوذ في أرض الحشد والرباط، صراع الكبار على كسب النفوذ، من يظفر به بريطانيا العجوز أم أمريكا؟
وأخيراً: إن أمريكا تريد طرد النفوذ الإنجليزي برجاله وبمنظومته السياسية، والنظام يصارع للبقاء في وجه هذه العاصفة، خاصة بعدما تغيرت ظروف دول الخليج وتغير النفوذ في السعودية.
لقد أغلقت أمريكا أبواب الدعم وجففتها عن الأردن، وجعلت النظام في الأردن داخل غرفة الإنعاش، وسلطت أدواتها الاستعمارية؛ كصندوق النقد الدولي ليفرض الشروط المذلة، ويفرض سياسات التدمير للحجر والبشر والشجر بحجة الإصلاحات الاقتصادية، والتدخل بكل الشؤون بتفاصيلها وبدقائقها، كيف لا يقدر على ذلك والحكام والنظام في الأردن جعلوا من أنفسهم خدما للغرب، وانسلخوا عن أمتهم وحكموها بمنظومة تشريعية فاسدة بتشريعاتها وأوساطها السياسية، وجعلوا من البلاد نهباً لكل طامع، وساحة لصراع للمستعمرين على حساب حياة الناس وكرامتهم وأموالهم وأعراضهم وبلادهم...
وعودٌ على ذي بدء، فإن الأزمة سياسية بامتياز، وليست اقتصادية صرفة، إذ المسألة مسألة تبعية وسطوة مستعمر قديم ومحاولة استيلاء مستعمر جديد. إن القضية في أصلها هي قضية صراع نفوذ واستعمار غربي حاقد، والحكام جعلوا من بلادنا ساحة صراع بين الدول المستعمرة، فالنظام يستمد شرعية وجوده من الذين نصبوه وأقاموه من بعد تقسيم بلاد المسلمين.
وخاتمة الكلام: إن المخرج من هذا المأزق؛ هو تحرير البلاد والعباد من كل النفوذ الغربي الغاشم، وتحرير العقول من التبعية للأعداء، وتحرير الأفكار من كل ثقافات الغرب الكافر، بعد ذلك ستكون مرجعية الأمة للإسلام العظيم الذي ارتضاه الله لنا، فهو الخالق العظيم ويعلم ما يضرهم وما ينفعهم.
إذ على الأمة الإسلامية أن تعلن معركة التحرير والتحرر من كل المنظومات السياسية والتشريعية الفاسدة والدخيلة على عقيدتها الإسلامية، كالمنظومة الرأسمالية البالية التي سمحت للفاسدين ببيع مقدرات البلاد ونهبها وتسخيرها خدمة للأعداء.
إن المخرج الوحيد للأمة الإسلامية هو أن تعود إلى إسلامها ونظامه الكامل الشامل، وأن تطبّقه في كافة شؤون الحياة من خلال كيان سياسي منبثق عن عقيدة هذه الأمة في كافة المجالات سواء أكانت السياسة الخارجية أم الداخلية أم الاقتصاد أم المجتمع، في دولة من أهم قواعدها أن لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل، فالسيادة للشرع والسلطان للأمة، حيث قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
وتعني حرمة أي سبيل للكفر على بلاد المسلمين، و﴿سَبِيلًا﴾ جاءت نكرة في سياق النفي وتعني العموم، فلا مكان للبنك الدولي ولا لأمريكا ولا غيرها من قوى الكفر والاستعمار في إملاء شروطها والتحكم برقاب المسلمين وأقواتهم، لن تستطيع هذه الدول وما يسمى بالمجتمع الدولي جعل بلادنا ساحة للصراع فيما بينهم لتحقيق مصالحهم. وإنه لا نجاة للشعب في الأردن من هذا المأزق الشديد الذي سببته سطوة النفوذ الاستعماري الغاشم والجاثم على صدره، إلا بالعودة إلى عقيدة الإسلام وما انبثق عنها من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي شامل متكامل بحسب ما أنزله الله تعالى من شريعة عظيمة تحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وبخلع نفوذ الاستعمار الغربي بشقيه الإنجليزي والأمريكي بأنواعه وأزلامه.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. إذ على من يريد التغيير والتحرك أن يحمل الإسلام عقيدة ينبثق عنها مشروع كامل ونظام حياة، وعلى من يريد أن يعيش بعز وكرامة ومن قبل كل ذلك أن يرضي الله سبحانه وتعالى أن يتبنى الإسلام كلاً غير مجزوء ولا مفصول بعضه عن بعض. وعليه أن يعمل مع العاملين لإقامة دولة الإسلام؛ دولة الخلافة على منهاج النبوة، فبغيرها لا حل ولا خروج من المأزق والأزمة التي نعيشها، داعين إلى العمل على بصيرة ووعي وإدراك ونسلك طريق محمد e، فنتابع المسير ولو طالت الطريق، ففيها النجاة وبها وحدها الخلاص، فالأمر توقيفي من الله سبحانه وتعالى حيث قال في محكم تنزيله: ﴿قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، فبغير ذلك ستبقى الأردن وجميع بلاد المسلمين في مهب الريح وساحة لصراع قوى الكفر.
إنه لا خيار للأمة الإسلامية إلا بخوض معركة التحرير بالكفاح السياسي والصراع الفكري لتحقيق الغاية، يقول الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الرحمن
رأيك في الموضوع