قبل يومين من استضافتها لقمة العشرين يومي 7-8/7/2017 التي حضرها الرئيس الأمريكي ترامب في مدينة هامبورغ الألمانية انتقدت المستشارة الألمانية ميركل السياسة الأمريكية بشدة قائلة: "بينما نتطلع إلى احتمالات التعاون ليستفيد الجميع لا ترى الإدارة الأمريكية في العولمة عملية مربحة للجميع، بل تسفر عن رابحين وخاسرين".واجتمعت معه قبل انعقادها لتعلن بعد الاجتماع أنها "تمثل في القمة المصالح الألمانية والأوروبية" وأنها "لن تتستر على الخلافات، بل ستسميها، لأن ثمة اختلافات في الرأي أيضا حول بعض القضايا المهمة، وأن المواضيع الأساسية لا تزال كما كانت؛ وهي تطوير الاقتصاد العالمي وتنظيم الأسواق المالية وتجارة حرة وحماية المناخ". لتزيد بذلك الضغط على ترامب، وكأنها تقول سأفضح كل شيء إذا لم توافق على ما نريد في تحد فريد. وطرحت شعار "الكل فائز" مقابل "أمريكا أولا".
وفي اختتام اليوم الأول للقمة انتقدت أمريكا مرة أخرى، فقالت "الغالبية العظمى من قادة العشرين أعلنوا التزامهم باتفاقية باريس، ومن المؤسف أن تخرج الولايات المتحدة من الاتفاقية"وذلك لزيادة الضغط عليها لعلها تخضع في النهاية. ولا يستبعد أن تكون للسلطات الألمانية يد بتسعير الاحتجاجات ضد تلوث المناخ وضد العولمة والرأسمالية لتشكل عامل ضغط آخر على أمريكا لعلها تتراجع عن قرار الانسحاب من اتفاقية المناخ وتتخلى عن الحمائية التجارية، وإلا فألمانيا قادرة على ضبط الاحتجاجات، ولا تجعلها تتأجج وتستعر بهذا الشكل، وقد عرقل المحتجون زوجة ترامب من تنفيذ زياراتها ومشاركاتها، واعترضوا طريق وزير خارجية أمريكا. وأظهرت ميركل فرحتها في نهاية القمة بإقرار التبادل التجاري الحر وهو الأهم بالنسبة لألمانيا.
وهكذا بدأت ألمانيا تتجرأ على مواجهة أمريكا. وهذا ليس أول تصريح ألماني ينتقد أمريكا أو يهاجمها، بل سبقتها تصريحات جريئة من المسؤولين الألمان. وتبعتها بأعمال ومواقف أخرى آخرها ما تعلق بقطر، إذ انتقد وزير خارجية ألمانيا "نهج ترامب" واعتبره "خطرا" وأن "سياسته خاطئة"، وتولت ألمانيا الدفاع عن قطر في وجه أمريكا وعملائها مصر والسعودية.
إن جرأة ألمانيا تنبع من أنها بدأت تدرك أكثر مواطن الضعف الأمريكية، وأدركت أن الموقف الأمريكي الدولي قد اهتز وظهر عليه الهوان، بعدما أصابته هزات شديدة إثر الأزمة المالية عام 2008، وقد حملت ألمانيا يومئذ أمريكا المسؤولية عن الأزمة، حيث انكشف عوار النظام الرأسمالي وفساده، واهتز موقفها أيضا إثر الهزائم التي لحقت بها في العراق وأفغانستان، وإعلانها أنها لم تنتصر، وأنها لن تخوض حربين في آن واحد، وجاءت بأوباما ليلملم الوضع، ويتخذ قرار الانسحاب، ويعالج الوضع الداخلي المتصدع والوضع المالي والاقتصادي المهترئ ولم يفلح، حتى أتت بترامب التاجر الهائم على وجهه يريد أن يجمع النقود بأي شكل من الأشكال، متبعا أسلوب المبتز المتغطرس ليأخذ الأتاوات من هذا ومن ذاك، وقد تحدته ألمانيا ورفضت أن تدفع له شيئا. وقد جربت ألمانيا الوقوف ضد أمريكا مع فرنسا عام 2003 فحققت بعض النجاح.
وقد حدث تطور ليس في حسبان أمريكا والغرب؛ وهو اندلاع الثورات والانتفاضات في البلاد العربية عام 2011 مما جعلها تصاب بالذهول، وبقيت مشغولة بمعالجة الوضع الجديد حيث أعلنت أن هذه الثورات وخاصة الثورة السورية تتحدى المجتمع الدولي كما صرح رئيسها أوباما. فانشغلت أمريكا عن مصارعة أوروبا واتبعت سياسة استخدام الآخرين روسيا والدول الإقليمية كتركيا وإيران وغيرهما وتوابعهما في تحقيق سياساتها بإلقام هذه الأطراف بعض العظام حتى لا تستعين بأوروبا الطامعة التي إذا ما سمح لها بالعمل فتغتنم الفرصة وتعمل على منافسة النفوذ الأمريكي لإسقاطه والحلول محله، ولذلك عزلت أوروبا، فبدأت الأخيرة تقاوم وتعمل على أن يكون لها مكان.
وقد شعرت ألمانيا أنها أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، واستطاعت أن تفرض سياساتها الاقتصادية على دول أوروبا، فأغراها هذا الوضع لأن تتحرك بشكل أقوى في السياسة الخارجية، وقد نجحت في تحدي أمريكا مع فرنسا في أزمة أوكرانيا، حيث وقعت اتفاق مينسك مع روسيا رغما عن أمريكا، وفي أزمة اليونان الاقتصادية حيث رفضت الضغوطات الأمريكية لتخفيف الضغط على اليونان.
وعندما أعلنت بريطانيا خروجها من الاتحاد الأوروبي، أظهرت ألمانيا الغضب في البداية خوفا من تفكك الاتحاد، ولكنها امتصت الصدمة، وبدأت تعمل على تعزيز المحور الفرنسي الألماني، واستغلت هجمات ترامب الهوجاء على الاتحاد الداعية لتفككه، وعلى حلف الناتو مهددا بالتخلي عن مسؤولية حماية العالم الغربي، مما جعل دول الاتحاد تتلاحم بعدما أدركت أن تفككه ليس من مصلحتها وإنما من مصلحة أمريكا، مما قلل من مخاطر تفككه. فكانت سياسة أمريكا ترامب وبالا عليها.
من هنا شحذت ألمانيا الهمم لتعود دولة كبرى عالميا لتساعدها تلك الأوضاع الخارجية بجانب الأوضاع الداخلية، خاصة وأن الحزبين الكبيرين اللذين يمثلان الحكم والمعارضة هما متفقان على السياسة نفسها في مواجهة أمريكا والعمل لجعل ألمانيا دولة كبرى عالميا، وهما مشتركان في الائتلاف الحكومي، وإذا استمرا فيه بعد الانتخابات القادمة في أيلول وهو محتمل، فإنهما سيسرعان الخطا في بناء ألمانيا دولة كبرى، سيما وأنه لا يوجد خلاف بينهما في هذا الموضوع.
وعندما أعلن ترامب سياسته "أمريكا أولا" أعلن الألمان أن "أمريكا تخلت عن أن تكون قائدا للغرب" والأخ الكبير الراعي والحامي، بل حطت من نفسها لتنزل إلى مستوى الإخوة الصغار لتناقرهم وتنافرهم، وتطلب منهم الدفع معلنة أنها لا تستطيع أن تتحمل كافة المصاريف، مما يعني أنها أصبحت ضعيفة غير قادرة على المصروف على الإخوة الصغار! فاستغلت ألمانيا الوضع فأعلنت على لسان مستشارتها أنه يجب أن "تتحمل المسؤولية عن الأوروبيين وتقرر مستقبلهم ومصيرهم وألا تعتمد على أمريكا" التي ألقت ما عندها وتخلت.
فألمانيا رسمت سياستها أوروبية، والآن تعززها بكل ما أمكنها مستغلة وضع أمريكا هذا، ووضع بريطانيا الداهية التي أصبحت كالدجاجة "الخوثة"! ووضع روسيا الغبية سياسيا التي تلهث وراء أمريكا ولا تحاول إدراك مواطن ضعفها فتستغلها. وكذلك وضع فرنسا، وقد رسمت ألمانيا سياستها أصلا بالعمل مع فرنسا للتقوي بها والانطلاق عالميا، ورأت أن فرنسا أصبحت تحتاجها أكثر وتريد أن تبني قوة عسكرية أوروبية معا. وتستغل ألمانيا وضع فرنسا الجديد مع ماكرون في محاولة لفرض هيمنتها على أوروبا والانطلاق عالميا. ومع بروز تحديها لأمريكا إلا أنها تدرك حجمها الحالي عسكريا وسياسيا أمام حجم أمريكا العسكري والسياسي، ولهذا وهي تتحدى أمريكا تحرص على عدم قطع الحبال معها، لأنه ما زال بينهما روابط واتفاقات أمنية واستخباراتية، وهناك عمل ألماني لتغييرها لصالح ألمانيا. وبينهما روابط اقتصادية، والميزان التجاري يميل لصالح ألمانيا. ولذلك حرصت ألمانيا في قمة العشرين الأخيرة على إبقاء التبادل التجاري الحر ومحاربة دعوة ترامب الحمائية. ونجحت مع الدول الأخرى في ذلك مما اضطر أمريكا إلى الخضوع. إلا أنها لم تنجح في جعلها تتراجع عن قرار الانسحاب من اتفاقية المناخ.
ولهذا فمن المحتمل أن تتقدم ألمانيا خطوات في الظهور الدولي كقوة عالمية على حساب التراجع الأمريكي، وخاصة أنها بدأت تهتم ببناء القوة العسكرية الألمانية والأوروبية.
أما أن تقوم ألمانيا بملء الفراغ في الموقف الدولي كدولة أولى، فهذا من الصعب أن يحدث على المدى المنظور، ولكن من الإمكان أن تصبح دولة كبرى عالميا، ويصبح شبه تعادل بين الدول الكبرى، أي لا تتمكن أية دولة بأن تكون هي الدولة الأولى متفردة، أي شبه تعادل بين الدول الكبرى. ويشبه ذلك ما حصل قبل الحرب العالمية الثانية. أما الذي سيملأ الفراغ في الموقف الدولي كدولة أولى متفردة فإنها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة القادمة قريبا بإذن الله.
رأيك في الموضوع