دأبت أمريكا منذ أن نحت ثورة الشام المنحى العسكري؛ على التأكيد مراراً وتكراراً أن الحل لما أسمته الأزمة السورية هو حل سياسي، وعلى الرغم من ذلك نجد أنها أوعزت إلى عملائها في المنطقة بدعم الثوار بالمال والسلاح شريطة ألا يسقط هذا السلاح نظاما ولا يرد عدوانا، وفي الوقت نفسه يبقي الفصائل المقاتلة خاضعة لرحمة الداعمين، وقد اتخذت هذا الإجراء لأمور عدة أهمها: احتواء الثوار ومن ثم توجيههم بمسارات محددة تستنزف طاقاتهم وتبدد جهودهم؛ وهذا الأمر تولى كبره كل من النظام التركي ونظام آل سعود بشكل أساس إضافة إلى النظام القطري، وشاهد الجميع ما نتج عن هذا الدعم الموهوم وما آلت إليه الفصائل التي تتلقاه وأين وصل بها المطاف، والأمر الآخر هو إيجاد المبرر للإبادة الجماعية والقتل الممنهج وإيجاد المناخ المناسب للقضاء على الفصائل التي تمتنع عن السير في الطريق الأمريكي؛ واستهداف حاضنتهم الشعبية وتدمير البلاد وتشريد العباد، إذ لا يمكن التغول في هذا القتل والإجرام ما لم يكن الطرف الآخر يحمل سلاحا بغض النظر عن فاعلية هذا السلاح، وبناء عليه استطاعت أمريكا إيجاد المبرر الذي نتج عنه قتل مئات الآلاف من المسلمين في أرض الشام دون أن يحرك المجتمع الدولي ساكنا، وتشريد الملايين منهم داخليا وخارجيا وهدم البيوت والمساجد والمستشفيات والمدارس والأفران وتدمير البنى التحتية، في محاولة منها لجعل أهل الشام عبرة لمن يفكر بالخروج على عملائها في المنطقة، كما استطاعت أمريكا المحافظة على عميلها طاغية الشام من خلال مَدِّهِ بالمقاتلين من جنسيات مختلفة والزج بروسيا في المعركة لتقدم الغطاء الجوي لجميع الأعمال العسكرية التي يخوضها بشار المجرم ضد أهل الشام.
هذا على الصعيد العسكري؛ أما على الصعيد السياسي فقد عملت أمريكا على المماطلة وكسب الوقت من خلال عقد مؤتمر جنيف بحلقاته الست التي امتدت لأكثر من خمس سنوات والتي كان آخرها مؤتمر جنيف 6؛ لتؤكد في كل مرة على أسس الحل السياسي الذي يرتكز على سِلاله الأربع والمتمثلة بتشكيل حكومة وطنية وتشكيل دستور وانتخابات ومحاربة (الإرهاب)، وكان لا بد لتحقيق هذه الأمور من وقف الاقتتال بعد أن أوغلت أمريكا في القتل والتدمير، فأوعزت إلى عملائها من جديد للضغط على الفصائل لوقف الاقتتال فتوصلت إلى اتفاق في نهاية العام الماضي 2016 يقضي بوقف الاقتتال، ومن ثم الدخول في مفاوضات مع طاغية الشام عن طريق عقد مؤتمر في العاصمة الكازاخية أستانة بمبادرة روسية الشكل أمريكية المضمون، فكان مؤتمر أستانة بجولاته الأربع بمثابة السكة التي يراد إيجادها ليسير عليها قطار الحل السياسي الأمريكي، حيث توصلت أمريكا من خلال الجولة الرابعة من مؤتمر أستانة إلى فرض ما أسمته تخفيض التوتر في مناطق محددة متفرقة لتضيق الخناق على أهل الشام وإحكام قبضتها على هذه المناطق، بل وجعلت بعض الفصائل في خندق واحد مع طاغية الشام ضد من يرفض الحل الأمريكي بعد أن وصمتهم بـ(الإرهاب)، وهي الآن تسير بخطى بطيئة وثابتة نحو تحقيق هدفها المنشود في الالتفاف على ثورة الشام.
وتعتمد في حلها السياسي على مرتكزات ثابتة وأهمها: المحافظة على مؤسسات الدولة الأمنية منها والعسكرية، ووضع دستور علماني يفصل الإسلام عن الحياة ويكرس التبعية ويحافظ على مصالح الغرب الكافر، وإجراء انتخابات ديمقراطية الشكل ليصل إلى الحكم من نال رضا أمريكا وأثبت ولاءه لها، وتشكيل حكومة وحدة وطنية عن طريق مصالحات بين بعض الفصائل وبين طاغية الشام، ومشاركة الجميع طاغية الشام والفصائل المتصالحة معه في محاربة كل من يقف في وجه هذا الحل تحت مسمى محاربة (الإرهاب). وبعد أن يتم ترتيب الأوراق وتطمئن أمريكا على محميتها تكون تنحية طاغية الشام ووضع طاغية جديد مكانه بمثابة مكافأة لأهل الشام على تضحياتهم.
هذه هي المرتكزات التي تعتمد عليها أمريكا في حلها السياسي، وإن الناظر لهذا الحل المرتقب يجد أن الواقع لن يتغير في مضمونه وإن تغيرت بعض ملامحه وأشكاله، وبالتالي فإن الضلال والشقاء ملازم له وإن ضنك العيش ثمرة من ثماره، كيف لا وهو قائم على تشريع البشر؛ تشريع يضعه العقل البشري الذي من صفاته التناقض والاختلاف والتفاوت والتأثر في البيئة؛ لينتج لنا نظاما يتصف بصفاته فيؤدي إلى شقاء الإنسان، وهذا ما نراه في جميع الأنظمة الوضعية، وإن ثورة الشام لم تنشأ من أجل ذلك وأهل الشام لم يقدموا فلذات أكبادهم ولم يقدموا الغالي والنفيس من أجل استبدال عميل بعميل أو من أجل تغيير في الوجوه فقط.
إن ما تمر به ثورة الشام من أهوال ومحن ليس بجديد على أمة محمد e، وإن خذلان البعض لها هو تاريخ يعيد نفسه ولن يضرها بإذن الله، وقد أخبرنا به رب العزة في محكم تنزيله فقال: ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ وقال سبحانه: ﴿قَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾، هذا حال من يبتغي رضا أمريكا ويخذل أهل الشام، أما حال المؤمنين فقد بينه الله عز وجل في قوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ & فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، فكان لا بد لكل مسلم مخلص رضي بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد e نبياً وبالقرآن العظيم دستوراً؛ كان لا بد أن يضع نصب عينيه مرضاة الله عز وجل وليس مرضاة أمريكا أو الغرب الكافر؛ وأن يطيعه في كل ما أمر وليس أن يطيع أمريكا ويسير في ركابها؛ فطاعة الله عز وجل هي الطريق الموصلة للنصر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، وقال عز من قائل: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾، وطاعة أمريكا هي الطريق الموصلة للهزيمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾. فعلى أهل الشام أن يثقوا بربهم وأن يعتصموا جميعاً بحبله المتين ويقطعوا كل حبائل الغرب الكافر، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
بقلم: أحمد عبد الوهاب*
* رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع