شرَعت أمريكا يوم الخميس 12 أيار/مايو الجاري رسمياً بتشغيل نظام الدفاع الصاروخي بتكلفة 800 مليون دولار في قاعدة عسكرية قديمة تعود للحقبة السوفييتية في ديفيسيلو جنوب رومانيا، حيث تمّ تدشين وإدخال مُجمّع (إيجيس) للدفاع الصاروخي في ما يُسمّى بحالة (الاستعداد العملياتي)، وحضر حفل الافتتاح الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) ينس ستولتنبرغ ومسؤولون عسكريون أمريكيون ورومانيون كبار.
وقال قائد القوات البحرية الأمريكية في أوروبا مارك فيرغسون: "إنّ الولايات المتحدة ورومانيا تصنعان التاريخ اليوم من خلال تقديم هذا النظام لحلف شمال الأطلسي"، أمّا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) فقال: "إن النظام يُمثّل تعزيزاً مهماً لقدرة الدفاع عن الحلفاء الأوروبيين ضد انتشار صواريخ باليستية تنطلق من خارج المنطقة الأوروبية الأطلسية" وزعم أنّ "الموقع في رومانيا، تماماً مثل الذي سيُقام في بولندا، ليس موجها ضد روسيا"، ويهدف مشروع الدرع الصاروخية لحلف شمال الأطلسي - وفق كلام المسؤولين العسكريين الأمريكيين - الذي كان قد تمّ إطلاقه عام 2010 إلى نشر صواريخ اعتراضية من طراز اس ام 2 ورادارات قوية في شرق أوروبا وتركيا بشكل تدريجي، ويُعتبر هذا الموقع الذي بدأت الأعمال فيه منذ تشرين الأول/أكتوبر سنة 2013 جزءاً من المرحلة الثانية من المشروع، وذلك بعد إتمام المرحلة الأولى منه، والتي تمّ فيها نشر نظام راداري في تركيا، ونشر أربع سفن من نوع إيجيس مزودة بقدرات دفاع صاروخي في منطقة روتا الإسبانية.
وسيوضع بعد ذلك حجر الأساس لبناء المرحلة الثانية من منظومة (ايجيس) بالقرب من بلدة ريدزيكوفو شمال بولندا، والذي سيدخل حيز الخدمة في العام 2018.
وقد ظهر على المسؤولين الروس حالة من الغضب الشديد بعد تدشين المنظومة، حيث شعروا بأنّهم المستهدفون منها بالدرجة الأولى، وأدركوا بأنّ أمريكا قد ضربت عرض الحائط بجميع الاتفاقيات الدولية السابقة معهم، فحاول ويل ستيفنس المتحدث الرسمي باسم السفارة الأمريكية لدى موسكو تهدئة مخاوفهم فقال: "إنّ نشر منظومة الدفاع ضد الصواريخ في رومانيا وبولندا يتوافق مع معاهدة إزالة الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى كامل التوافق".
وادّعى أنّ الهدف من نشر هذه المنظومة هو توفير الحماية الكاملة لشركاء الناتو في أوروبا من التهديد الباليستي المتزايد من إيران حسب زعمه، وقال إنّ إيران: "تُواصل تطوير الصواريخ الباليستية واختبارها للصواريخ بعيدة المدى، وهو ما يُمكّنها من بلوغ أراضي البلدان الأعضاء في (الناتو)".
إنّ أمريكا في استراتيجيتها هذه لنشر الأنظمة الدفاعية الصاروخية على طول الحدود الروسية الدولية، تبدو غير عابئة نهائياً بالمصالح الاستراتيجية الروسية، بل وتنتهك بوضوح كل المواثيق والمعاهدات الموقّعة بين الطرفين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في سنة 1991.
فمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية المعروفة اختصاراً باسم ايه بي أم (ABM) والتي وُقّعت في الثامن والعشرين من أيار/مايو سنة 1972 كانت قد منعت - كلتا الدولتين أمريكا وروسيا - من نشر أنظمة دفاعية ضد هجمات صاروخية نووية باستخدام صواريخ باليستية طويلة المدى، وها هي أمريكا اليوم تخرقها بكل صفاقة وتحدٍ.
ومن جهةٍ أخرى فقد تزامن نشر هذه المنظومة مع استفزازات أمريكية أخرى ضد روسيا، وذلك مع انطلاق مناورات عسكرية جورجية أمريكية أوروبية تحت اسم (نوبل بارتنر 2016) أي الشريك الجدير، والتي بدأت يوم الأربعاء الماضي قبل نصب المنظومة بيوم واحد، وتستمر هذه المناورات حتى 26 أيار/مايو الجاري، ويُشارك فيها ما يزيد قليلاً عن 1300 عسكري، منهم 600 أمريكي، و100 بريطاني، و500 جورجي، وآخرون.
وردّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على تلك الاستفزازات والتحدّيات الأمريكية ردّاً باهتاً لا يتناسب مع ضخامة حجمها فقال: "إن تشغيل منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في رومانيا أمر يدعو للأسف"، واعترف في كلمةٍ له أمام مسؤولين روس كبار في مؤسسة الدفاع والتصنيع العسكرية الروسية بقوله: "إن هذه الدرع تستهدف إبطال فاعلية الترسانة النووية الروسية، وإنها خطوة نحو سباق تسلح جديد"، وأشار إلى أن "منظومة الدرع الصاروخية ليست منظومة دفاعية، بل هي جزء من الإمكانيات النووية لأمريكا، التي نُقلت إلى الخارج وتحديدا إلى شرق أوروبا". وأضاف بأنّ "بلاده ستتخذ كل الإجراءات من أجل الحفاظ على التوازن الاستراتيجي في العالم، وأنّه لن تنجر بلاده إلى سباق تسلح جديد، لكنها ستعدل خططها لإعادة تسليح الجيش بما يتناسب مع مستوى الخطر"، فهو سيبدأ من الآن بالتفكير بتعديل الخطط، بينما أمريكا ترجمت الخطط إلى أعمال، وفرق بين الأعمال والأقوال، وبكلامه هذا يظهر وكأنّه سلّم بالتفوق الأمريكي في هذا المضمار.
والحقيقة أنّ هذه المنظومة الصاروخية الأمريكية التي تمّ نصبها في شرق أوروبا لا تعمل فقط على الإخلال بالتوازن الاستراتيجي مع روسيا وحسب، بل كذلك تُخِلّ التوازن مع الصين مستقبلاً، فهي من ناحية عملية ستُوفّر لأمريكا تفوقاً استراتيجياً غير مسبوق على هاتين الدولتين، وعلى غيرهما، إذ تستطيع أمريكا من خلالها إسقاط أي صاروخ باليستي ينطلق إليها من الصين أو من روسيا، بينما لا تستطيع روسيا ولا الصين إسقاط أي صاروخ أمريكي ينطلق تجاههما، وهذا يعني أنّه في الوقت الذي تكون فيه الولايات المتحدة بمنأى عن أي هجوم صاروخي خارجي، لأنها تستطيع صدّه وإسقاطه، فإنّ روسيا والصين وكل بلدان العالم ستكون معرضةً لأي هجوم صاروخي أمريكي قد يُشن ضدها، ذلك لأنّ أيّاً من دول العالم لا تمتلك المقدرة الفعلية نفسها التي تمتلكها الولايات المتحدة، وهذا وضع استراتيجي دولي مختل، لم يوجد في أي وقت من الأوقات فيما مضى من العقود.
وهذا الوضع الدولي العسكري الاستراتيجي الجديد لا شكّ أنّه وضع مختل لصالح دولة واحدة هي أمريكا، وهو من شأنه أنْ يوجِد التخوف الحقيقي لدى جميع دول العالم، وليس لدى روسيا والصين فحسب، لأنّ هذا النظام سينتقل على الأرجح في مراحل لاحقة - في سياق هذه الاستراتيجية - حتى إلى حلفاء واشنطن البعيدين عنها جغرافياً مثل اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، أي على حدود الصين، وفي فضائها الحيوي، فمسألة نقله ونشره مسألة وقت، ولدى أمريكا الكثير من الذرائع لتبريره.
وحتى دول الاتحاد الأوروبي نفسها وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، فإنّها قد تضرّرت كثيراً من هذا النظام، لإدراكها بأنّ أمريكا لا تُلقي بالاً للشراكة الأطلسية معها في تبني استراتيجيات أمن مشتركة، فهي تنتقدهم إذا قاموا بعمل دفاعي أوروبي خاص بهم، بينما لا تُشاورهم عندما تقوم هي بنشر منظومتها الصاروخية الخاصة بها، لذلك فقد لوحظ أنّ نشر المنظومة الصاروخية الأمريكية في رومانيا وفي بولندا، ومن قبل في إسبانيا وتركيا، لوحظ أنّ نشرها قد قوبِل بفتورٍ شديدٍ لدى دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية، فلم يُشارك في مشهد الاحتفال بنشر المنظومة برومانيا أي مسؤول أوروبي، وبدا للجميع وكأنّ تلك المنظومة خاصة بأمريكا ورومانيا، وليست عامّة بين أمريكا وشركائها الأوروبيين المشتركين معها في نفس حلف الناتو، وقد ظهر بالفعل في تعليقات وسائل الإعلام الأوروبية على الموضوع نوع من الامتعاض.
وأمّا روسيا فلم يُسعفها معاونتها الثمينة لأمريكا من خلال زجّها لقواتها إلى سوريا، ودعمها لنظام الطاغية بشّار، وحمايته من السقوط، بالتنسيق الكامل مع أمريكا، فكافأتها أمريكا بنشر أخطر وأحدث منظوماتها الصاروخية على حدودها، وهو ما جعلها تفقد قدرة الردع الاستراتيجي التي احتفظت بها منذ أيام الاتحاد السوفييتي، وتفقد معها القدرة على تهديد المصالح الأمريكية، وتتحوّل بالتالي إلى مجرّد دولة من الدرجة الثانية، يُطلب منها فقط تأمين المصالح الأمريكية مقابل أثمان بخسة.
وأمّا بالنسبة لدور البلدان الإسلامية بقياداتها الحالية، وعلاقتها بالمنظومة الصاروخية الأمريكية، وبالذات دورَيّ كلٍّ من تركيا وإيران، فقد أثبتت أنّها إمّا مجرد محطات قواعد للرادارات الأمريكية كما حصل مع تركيا، وإمّا أنّها ذرائع تُستخدم كفزّاعات لنشر الصواريخ الأمريكية في مناطق مختلفة مثل ما جرى مع إيران.
إنّ هذا التفوق الأمريكي الجديد في مجال السلاح الصاروخي الباليستي، وتوظيفه في فرض السيطرة الأمريكية الأحادية على جميع دول العالم، قد أحدث خللاً بيّناً في الموقف الدولي، وأخلّ بالتالي بالتوازن العسكري الدولي، فأوجد حالةً غير مسبوقة في تفرد دولة واحدة في مجال منظومات الدرع الصاروخي، وهو الأمر الذي يستوجب - عالمياً - قيام دولة مبدئية جديدة تمتلك من وسائل القُوّة ما يُمكّنها من إصلاح هذا الخلل، ووضع حد لطغيان أمريكا، وجبروتها العسكري، ولا يوجد في هذا الصدد من بديل عالمي جديد سوى قيام الدولة الإسلامية - دولة الخلافة على منهاج النبوة - التي تملك من أسرار القوة الحقيقية، ومفاتيح التحدي والجرأة، ما يؤهّلها للقيام بهذا الدور المتميز.
رأيك في الموضوع