لا يشك عاقل في تناقض المصالح الاستعمارية مع مصالح الأمة الإسلامية في الصميم، ولا يشك سياسي واع في أن الغرب وعلى رأسه أمريكا قد أعلنوا حربا لا هوادة فيها على الخلافة الراشدة على منهاج النبوة المرتقبة قبل قيامها، وقد تضافرت تصريحات الساسة وزعماء العالم من الشرق للغرب تؤكد ذلك العداء الرأسمالي ضد تحكيم الإسلام كنقيض للديمقراطية الرأسمالية. ورغم أن تلك التصريحات العدائية أكثر بروزا لدى الزعماء من فئة "الصقور" الصداميّين مثل أقطاب الحزب الجمهوري الأمريكي ومثل الرئيس الروسي، إلا أنها لم تغب عمّن يحاولون ستر عدائهم بريش "الحمائم"، ويغلفون هجومهم على العالم الإسلامي بنعومته السياسية مثل أقطاب الحزب الديمقراطي: فمثلا، على الرغم مما حاوله أوباما من ترميم صورة أمريكا لدى المسلمين، ومن خطب ودهم في سنوات حكمه الأولى، إلا أنه لم يستطع أن ينهي فترة رئاسته، دون أن يكشف عن مكنون نفسه، وعن توجّسه من الخلافة، فقال "لن نسمح لهم بإقامة خلافة بصورة ما في سوريا والعراق" (الجزيرة نت 9/8/2014). ولم تُخفِ المرشحة الديمقراطية الجديدة للرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون تخوفها من الخلافة في باكستان في تصريحات سابقة لها في 8/12/2009.
ولذلك فإن أمريكا تخوض صراعا شرسا ضد الأمة الإسلامية وضد عقيدتها، يتخذ الطابع العسكري، مثل جرائمها في أفغانستان وفي العراق، كما يتخذ الطابع السياسي والفكري أيضا، وذلك كله ضمن المواجهة مع مشروع الأمة الحضاري، وضمن نهج الاحتواء عندما يصعب الصدام. ولا يمكن لمحلل موضوعي أن ينكر هذا الصراع بأشكاله المختلفة، بغض النظر عن دينه وثقافته.
وإن الأساليب السياسية التي تخوض أمريكا صراعها عبرها لا تقل خطورة عن الحروب العسكرية، وهي على الحقيقة تكريس لنفوذ الغرب الرأسمالي المعادي للإسلام والمسلمين، كما يبرز في ليبيا واليمن وسوريا وفلسطين:
حيث تحاول أمريكا الحضور القوي في المشهد الليبي واليمني مع محاولة كنس الوسط السياسي القديم العريق في الولاء لبريطانيا، وإن لم تستطع فهي تحاول أن توجد لها موطئ قدم في نظام الحكم الجديد، يمكّنها مستقبلا من الاستفراد بالحكم، وبالمصالح السياسية. أمّا في سوريا فهي تدرك خطورة الثورة، ولذلك تصرّ على حرفها عن مسارها التحرري، وتصرّ على عقد المؤتمرات وتحريك الحلول السياسية حتى لا يخرج الوسط السياسي الجديد بعد الثورة عن خانة العمالة لها. وفي فلسطين تصر على الانفراد بأوراق الحل السياسي بيدها، بعدما فرضت رؤيتها السياسية بحل الدولتين على كل حراك دولي وإقليمي وعربي.
إذن هي حلول تسمى سياسية، ولكن طبيعتها أمريكية. ورغم هذه الحقائق الصارخة، هنالك أصوات في العالم الإسلامي - سواء عبر الدول القائمة فيه، أو عبر عدد من الجماعات والأحزاب والفصائل يعلنون أن لا حلول لمشاكل العالم الإسلامي إلا عبر نافذة أمريكا، ولا يسيرون في حل النزاعات ووضع المعالجات إلا عندما تكون أمريكا هي الحَكَم. فهل يمكن أن يتمخض عن أمريكا المستعمرة نهضة للشعوب المضطهدة وتحرر من هيمنتها ومن هيمنة المستعمِرين الآخرين؟
إن مكامن النفوس تدرك تماما أنه ليس ثمة من وصف ملائم لركون القوى السياسية للغرب ولتسليم قضايا الأمة إلى أعدائها غير الجريمة الكبرى إن لم نقل الخيانة العظمى. ولا يمكن أن يتغافل اللاهثون خلف أمريكا وحلولها عن حقيقة النزعة القرآنية التي ترفض هيمنة المستعمرين، وتحضّ المسلمين على التمرد على سلطانهم، والله سبحانه قد قال: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾، وهو تشريع رباني يحرّم على المسلمين تمكين المستعمِرين من رقابهم أو بلادهم أو قضاياهم، والركون إلى برامجهم ومخططاتهم.
ومما لا شك فيه، أنه لا يمكن لأي منظر أن يقفز على هذه الحقيقة القرآنية، ويروج للحلول الأمريكية، أو أن يخفي ما تحمله من أخطار فظيعة على الأمة الإسلامية وعلى حراكها، وعلى مستقبل تضحياتها. إذ إن مسايرة التحركات الأمريكية والتماهي مع حلولها يعني فيما يعنيه:
- رمي ثورة الأمة في حضن المستعمر الذي تريد الأمة أن تتحرر منه، وهو تنفيذ حرفي لمخططاته الاستعمارية.
- إعطاء المبدأ الرأسمالي فرصة الهيمنة على المعالجات الإسلامية لمشاكل الأمة، وذلك فيه ما فيه من هيمنة فكرية غربية، ومن غلبة حضارية أمام الغرب.
- إعادة إنتاج طبقة من صنف الحكّام الذين ثارت عليهم الأمة، وهم الذين ظلت الأمة تعاني الكبت تحت سياطهم وتدرك أن سبب مآسيها ينبع أساسا من ارتباطهم بأمريكا وأوروبا.
- تضييع لدماء الذين ثاروا للتخلص من الاستبداد ومن الظلم، حيث تعيد تلك الحلول الاستبداد بصورة أفظع كما حصل في مصر، عندما سايرت الأوساط السياسية الحلول الأمريكية.
- تعطيل لمشروع الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الذي يعيد للأمة عزتها ولمبدئها بريقه، وتعطيل لشرع الله واجب التحكيم.
إن عداء الدول الغربية للإسلام ولقضيته السياسية ثابت متأصل في فكر الغرب وفي وعي الأمة الإسلامية، ولا يمكن أن تخفيه نعومة أوباما، ولا دهاء بريطانيا، ولا ما تحاول أوروبا البروز فيه من مظهر إنساني وهي تستقبل اللاجئين المهجرين بسبب السياسات والتدخلات الغربية في بلاد المسلمين. ويتغيّر ساسة أمريكا ويتعاقب الرؤساء، ولكن طبيعة الصراع لا تتغير ولا يختلف عمقه الحضاري، وإن اختلفت بعض أساليب تنفيذه.
وهذا العداء لوحده - قبل الأحكام السياسية الشرعية - كفيل بأن ينفّر المسلمين من كل أطروحات الدول الاستعمارية، وأن يصروا على نظرتهم لها بالعداء، ومن ثم أن يستعلوا على حلول الغرب ومؤتمراته ومبادراته، وأن يعتبروها مؤامرات قبل أن تكون مؤتمرات، لئلا يخرج الاستعمار من النافذة ليدخل من الشباك!
رأيك في الموضوع