شهد الإعلام في منتصف شهر حزيران/يونيو ضجة إعلاميةً واسعة بعد قيام شابٍّ أبيض بإطلاق النار على كنيسة للسود في مدينة تشارلستون في ولاية ساوث كارولينا، وقتل تسعةً من السود.
ارتفعت وتيرة النقاش حول تصاعد تلك الأعمال العنصرية في أمريكا، علماً أن هذه الحادثة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فهناك مئات من حالات اعتداءات البيض على السود في أمريكا، بل إن الأمر وصل إلى الشرطة والجيش الأمريكيين.
لو نظرنا في إحصائيات رسمية أمريكية لوجدنا أن هذه الحوادث ليست فردية، بل هي جزء من الحياة الأمريكية، خاصة إذا عرفنا أن هناك أحياء راقية نظيفة للبيض، وهناك أحياء شعبية يقل مستواها عن مستوى أحياء العالم الثالث للسود، وهناك مدارس خاصة لأبناء البيض، ومدارس خاصة لأبناء السود، ونجد نسبة البطالة ترتفع عند السود بثلاثة أضعاف أكثر من البيض، وهذا يعني أن قانون الحقوق المدنية الذي وقعه الرئيس الأمريكي جونسون في ستينات القرن الماضي بعد ثورة مارتن لوثر كينج لم يغير كثيراً في واقع المجتمع في أمريكا.
"إن الإنسان يكيّف سلوكه في الحياة بحسب مفاهيمه عنها، فمفاهيم الإنسان عن شخص يحبه تكيّف سلوكه نحوه على النقيض من سلوكه مع شخص يبغضه وعنده مفاهيم البغض عنه، وعلى خلاف سلوكه مع شخص لا يعرفه ولا يوجد لديه أي مفهوم عنه، فالسلوك الإنساني مربوط بمفاهيم الإنسان"، هذه الحقيقة وردت في الفقرة الأولى من الصفحة الأولى من كتاب "نظام الإسلام" لحزب التحرير، وهذا يفسّرُ للدارس والباحث واقع التمييز العنصري داخل المجتمع في أمريكا، وأن سلوك الناس هذا في أمريكا مرتبط بالمفاهيم السائدة في ذلك المجتمع.
وإذا ربطنا هذه المفاهيم بوجهة النظر النابعة من المبدأ الرأسمالي، لوجدنا أن هذه المفاهيم جزءٌ من المبدأ الرأسمالي، وأن هذه النظرة منبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة، فالمبدأ الرأسماليُّ لم يربط الحياةَ الدنيا بما قبلها، ولا بما بعدها، بل جعل هذا الربط شأناً فردياً، وليس أساساً في مبدئه والمفاهيم المنبثقة عنه، وبناءً على ذلك ترك المبدأُ الرأسمالي لحامله أن يحدّد المفاهيم التي يريد، بغضِّ النظر عن صحتها أو خطئها، وبغضِّ النظر عن وحدةِ المفهوم عند حاملي المبدأ.
لذلك من الطبيعي أن نجد المبدأ الرأسمالي يخلو من مفاهيم كثيرة ضرورية لوحدة المجتمع والأمة والدولة، ومن هذه المفاهيم: مفهوم كرامة الإنسان، ومفهوم الخير والشر، ومفهوم الحبّ والكره، ومفهوم الحسن والقبح، ومفهوم الأخوة بين حملة المبدأ الواحد، وتركَ المبدأ لحامله أن يحدّد المفهوم الذي يراه، ونتج عنه ما نشاهده في المجتمعات الرأسمالية من ارتفاع نسبة الجريمة، واحتقار الإنسان للإنسان وما نتج عنه من تمييز عنصري بين الناس بناء على ألوان جلودهم.
ولإدراك واقع هذه المفاهيم وتأثيرها في الفرد والمجتمع والأمة والدولة، نعقد مقارنة يسيرة بين المبدأ الرأسمالي والإسلام في المفاهيم التي أشرنا إليها سابقاً، فالإسلام قرَّر كرامةَ الإنسان بوصفِه إنساناً، أي بغضّ النظر عن لونه أو جنسه أو دينه، فقال سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: ﴿ولقد كرّمنا بني آدمَ..﴾، وأزالَ الإسلام الفروق بين الناس بمفاهيمه وأحكامه الشرعية، وطبّق المسلمون ذلك عملياً خلال ثلاثة عشر قرناً من الزمان تطبيقاً منقطع النظير بتأثيره. وقال رسول الله r: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ». وحدّد الإسلامُ لمعتنقِه مفهوم الحب والكره والخير والشر، فجعل الحب والكره في الله، وجعل الخير ما أرضى الله لا ما يراه الإنسان نافعا، وجعل الشر ما أسخط الله لا ما يراه الإنسان ضارا.. وقرَّر الإسلام الأخوّةَ بين معتنقيه، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وطبّق المسلمون هذه المفاهيم تطبيقاً كاملاً متميزاً، ففاقت أخوةُ المبدأ أخوّةَ الدم والنسب. وفرض الإسلامُ على معتنقِه مفهوم الحسنِ والقبح ومنه مفهوم الحلال والحرام مقياساً للسلوك، ونظّمَ العلاقات بين الناس بأحكام شرعية يلتزمها المسلمون طاعةً لله.
إن مشكلة التمييز العنصري في أمريكا إنما هي أزمة حضارة، أزمةُ مبدأ، هذه المشكلة - كغيرها من باقي المشكلات - تُظهِرُ فشلَ المبدأ الرأسمالي في إسعاد الناس الذين يعتنقوه، وتظهِرُ عجزَ المبدأ الرأسمالي عن إيجاد المعالجات الصحيحة لمشكلات الإنسان، فالمسألة ليست مسألة قانون يُوقَّعُ وينفَّذُ، بل هي مسألة قناعات ومفاهيم تنبثق عن مبدأ صحيح أو تبنى عليه.
إن المبدأ الرأسماليّ مبدأ من وضع الإنسان، والإنسان - إن وضع مفاهيمه وأحكامه - يضعها إما من هواه المتقلب، وإما من عقله الناقص الذي تتصف أحكامه بالاختلاف والتفاوت والتناقض والتأثر بالبيئة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ؟﴾.
إن عدم ربطِ العقيدة والمفاهيم والأحكام بين الحياة الدنيا بما قبلها، أي عدم ربطها بالله سبحانه وتعالى يُفقِدُ الإنسانَ الأساس الروحيّ في المفاهيم والسلوك، وعدم ربطها بما بعد الحياة الدنيا أي عدم ربطها باليوم الآخر يُفْقِدُ الإنسانَ الحافزَ على العمل الصحيح، وهذا كله افتقده المبدأ الرأسمالي، فجعل حاملَه عبدًا لهواه وشهواته، وجعله يعيش في شقاء دائم، وجعله مجرماً في حقِّ نفسه وحقِّ مجتمعه.
إن التمييز العنصري مسمار من المسامير الكثيرة في نعش المبدأ الرأسمالي، ومع ذلك لا يني الاعلام الغربي المضلِّل يتبجح بمزايا وحسنات الحضارة الغربية المزعومة بينما يتستر على عوراتها التي أزكمت فضائحها الأنوف. ولا يزال بعض المسلمين الجهلة يلهثون وراء السراب الخادع للحضارة الغربية، فيُلقون بفلذات أكبادهم ليعيشوا وسط ملة الكفر بل ومخاطرين بحياتهم للوصول إلى جحيم الحياة الغربية، فيا ليت قومي يعلمون.
رأيك في الموضوع