إن أهم أداتين للعولمة والاستعمار الأمريكي واللتين وُلِدَتَا من رَحِم الحرب العالمية الثانية هما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. لقد كَسرت هاتان الأداتان العمود الفقري لاقتصاديات دول مثل المكسيك وإندونيسيا وكوريا والباكستان والأردن وبنغلادش. وفي ظِل سياسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، واصلت البلدان النامية (دول العالم الثالث) في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لعب نفس الدور في السنوات الخمسين الماضية: توفير المواد الخام، والسوق الاستهلاكية، واليد العاملة الرخيصة لتوليد الأرباح للدول الصناعية الكبرى خاصة الولايات المتحدة.
إن مسؤولية الرأسمالية العالمية بقيادة أمريكا عن الوضع الاقتصادي الراهن في العالم يعتبر بلا شك حقيقة معترفاً بها من قبل كل من له أدنى دراية بالشؤون الاقتصادية، إذ جعلت العولمة من الرأسمالية العالمية النظام الاقتصادي الفعلي والوحيد في العالم. ويعتبر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (IMF) الأداتين الرئيسيتين في العالم الرأسمالي، ويتحملان مسؤولية بشكل مباشر وغير مباشر عن الأوضاع الاقتصادية السيئة في العالم النامي.
ولا شك أن العلاقة بين الفقر في العالم بأسره وصندوق النقد الدولي ومن ورائه أمريكا علاقة وثيقة ومتلازمة تنطق بها وتمثلها العديد من الحالات والوقائع، ولعل المثال التالي يوضح ما يخلفه صندوق النقد المشؤوم من بؤس وشقاء في الدول التي يحل بها نيابة عن المؤسسات الرأسمالية العملاقة في أمريكا، لقد كانت هايتي من أكبر المصدرين لمادة الأرز في العالم قبل تدخل صندوق النقد في شؤونها الاقتصادية، وقد تم تجسيد أزمة الأرز في هايتي في مقال يصف امرأة لديها ثلاثة أطفال تعجز عن إطعام أطفالها وجبة الرز التي كانت هايتي تنتجه من قبل بكثرة وافرة. وهذا نتيجة لسياسات السوق الحر التي فرضها صندوق النقد وقَوَّضت الإنتاج الوطني كما يعترف رئيس هايتي السابق رينيه بريفال أن "الأرز المستورد الرخيص من أمريكا دمّر الأرز المنتَج وطنياً. فقبل ثلاثين عاماً كانت هايتي تُنتج جميع الأرز الذي تستهلكه تقريباً، ولكن في أواخر الثمانينات غمر الأرز الأمريكي المستورد الرخيص البلاد بعد أن بدأ المجلس العسكري المدعوم من الاستخبارات الأمريكية بتحرير الاقتصاد بطلب من صندوق النقد الدولي (IMF). ولقد رافقت قوافل القوات المسلحة الدفعات الأولى من الأرز المستورد من أمريكا تحسبا من هواجس المزارعين الذين اعتبروا أن الأرز الأمريكي المستورد يُشكّل تهديداً لإنتاجهم وسبل عيشهم، وكما اتضح لاحقاً فقد كانت مخاوفهم مبررة. ففي عام 1994 خفّضت خطة برعاية صندوق النقد الدولي التعريفات الجمركية على الأرز المستورد من أمريكا من 35٪ إلى 3٪، ما أدى إلى مضاعفة كمية واردات الأرز في سنة واحدة والقضاء على زراعة الأرز محليا ومن ثم تضاعفت أسعار الأرز ولم يبق لكثير من الناس في هايتي إلا الجوع ونقص التغذية والمرض والقهر.
يمارس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ضغوطاته من خلال ما يعرف باسم برامج التصحيح الهيكلي (Structural Adjustment Programs SAPs) التي تضع شروط القروض، وتفرض برامج التصحيح تغييرات في السياسة الاقتصادية تُلزم الدول المتلقية بتحرير سياساتهم التجارية والاستثمارية، وتخفيض الرسوم الجمركية على السلع المستوردة، ورفع الدعم عن المنتجات المحلية وخاصة المواد الغذائية، ونقل الأراضي ذات المساحات الكبيرة من الزراعة إلى البناء والتنقيب عن النفط وبيع المؤسسات السيادية كالماء والكهرباء لشركات لها صلة مباشرة بالصندوق المشؤوم، وأغرقت البلاد بسياسات اقتصادية ومالية أدت إلى صعوبات كبيرة في سداد القروض، وتظهر آثار الهيمنة الرأسمالية في العالم على الأوضاع الاقتصادية السائدة من الفقر والجوع والأوبئة الصحيّة. وقد منح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قروضاً بفائدة ربوية إلى كل بلد تقريباً في العالم، وفَرَضَ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على كثيرٍ من المستفيدين من القروض شروطاً تؤثّر على النمو الاقتصادي الحقيقي في كل بلد وعلى قِيَم واحتياطيات العملة. وقد بلغ الدَّين الخارجي لصندوق النقد الدولي المترتب على أفقر خمسة وعشرين بلداً 155 مليار دولار مع نهاية عام 2012.
لقد تكرَّرت قصص صندوق النقد الدولي في تدمير اقتصاد الدول في الأرجنتين وجامايكا ولاتفيا وأوكرانيا وهنغاريا وإثيوبيا، والباكستان ومصر، وغيرها الكثير. ففي مقالٍ نشره مركز أبحاث الاقتصاد والسياسة (CEPR)، تم تفصيل أثر سياسات صندوق النقد الدولي على الانكماش الاقتصادي في أوكرانيا ولاتفيا وهنغاريا والأرجنتين.
وقد لوحظ وبشكل دائم أنه عندما تتلقى البلدان الفقيرة قروض صندوق النقد الدولي، فإن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول ينخفض بينما يرتفع معدل الفقر. وتقدم الباكستان مثالا جيدا على هذا الاتجاه، حيث تتخذ الحكومة الباكستانية التدابير المالية مثل زيادة الضريبة العامة على المبيعات، وزيادة في الجهود المبذولة في تحصيل الضرائب، ورفع الدعم عن المنتجات البترولية المحلية، ورسوم كهرباء أعلى، وتدابير أخرى لحل مسألة الدّيون المُدوَّرَة والتي يجري إعادة جدولتها باستمرار. وقد تم تحديد هذه التدابير من قِبَل صندوق النقد الدولي بحيث يُمكن للبلد سداد رسوم فائدة القروض التي اقترضها من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول الأعضاء فيه. وقد فرض صندوق النقد مؤخرا على الأردن شروطا قاسية طالت لقمة عيش الفقراء ورفعت نسبة الضرائب على كثير من المواد شملت الكهرباء والماء ومشتقات البترول والمواصلات وغيرها، كل ذلك من أجل تمكين الحكومة من دفع فوائد الديون المترتبة على قروض البنك الدولي التي لم تنفق في أي مجال إنتاجي يمكّن الدولة من سداد الدين ناهيك عن فوائده الربوية.
وما يثير السخرية والدهشة، أنه عندما ترفض دولة ما الاقتراض من صندوق النقد الدولي أو الالتزام بسياساته، فإنها تُخاطِر بتعريض نفسها للعقوبات والضغوط السياسية من المساهمين الرئيسيين في صندوق النقد الدولي مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا.
والحاصل أن صندوق النقد والبنك الدوليين المشؤومين ما هما إلا أداة استعمارية قاسية بيد مستعمر غاشم جشع، لن يوقفه عن تعسفه إلا نظام مبدئي قادر على قطع اليد التي تستخدمه وما ذلك على الله بعزيز.
رأيك في الموضوع