أنهى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا الجولة الأولى من مفاوضات جنيف3 بمؤتمر صحفي في 24/3/2016 أعلن فيه أنه قدم للوفدين المتفاوضين ورقة لنقاط التوافق المشتركة بين الوفدين، وقد تضمنت هذه الورقة اثني عشر بندا تحت عنوان "المبادئ الأساسية لإيجاد حل سياسي في سوريا"، ومن المفترض أن هذه الورقة تحتوي على النقاط التي تلقى قبولا مشتركا بين الوفدين بحسب ما رصده دي ميستورا وفريقه المساعد، فقد جاء في مقدمة الوثيقة (...خلال سير المباحثات لاحظ المبعوث الخاص أن هناك نقاط توافق بين الطرفين فيما يتعلق برؤيتهما لما يمكن أن يكون عليه مستقبل سوريا. قام المبعوث الخاص بإصدار توجيهات لفريقه بالتقاط تلك العناصر المشتركة من أجل مساعدته على التحضير للدورة القادمة من المفاوضات والتي ستركز على مسألة الانتقال السياسي...).
وقد كان رد الفعل الأولي لما يسمى بوفد المعارضة على وثيقة دي ميستورا كما جاء على لسان أحمد كامل المستشار الإعلامي لوفد المعارضة "إن دي ميستورا قدم ورقة للمعارضة فيها رؤيته للوصول إلى انتقال سياسي في سوريا. وبحسب تعبير كامل؛ "إن طبقت هذه الورقة حقيقة فإنها تؤدي إلى انتقال سياسي". وأضاف كامل في مداخلة مع "العربي اليوم" على شاشة التلفزيون العربي أن الفرق بين الورقة التي قدمها دي ميستورا والورقة التي قدمتها المعارضة ضئيل جداً، وعليها ملاحظات بسيطة..." "وأكد كامل أن هذه الورقة ليست بعيدة عمَّا قدمته المعارضة". (شبكة التلفزيون العربي 20/3/2016).
وكانت بسمة قضماني العضو بوفد المعارضة، قد صرحت بقولها "نخرج من هذين الأسبوعين ولدينا شعور بأننا وضعنا على الأرجح الأساس لمحادثات جوهرية في الجولة التالية". وأضافت "لم نعقد مثل هذه المحادثات الجوهرية"، معتبرة أن دي ميستورا قدم وثيقة "بناءة" تتضمن فهمه لنقاط الالتقاء بين كل الأطراف) (صحيفة العرب 25/3/2016)، وقال رياض آغا عضو الهيئة العليا للمفاوضات إن "هناك مسلَّمات وبدهيات هي ليست موضع خلاف بين السوريين جميعا، وما استقاه دي ميستورا من مجمل الحوارات هو تلك البدهيات المتفق عليها ". (الإسلام اليوم 25/3/2016)، وردود الفعل هذه تدل على أن ما يسمى بوفد المعارضة موافق سلفا على مضمون ما ورد في وثيقة دي ميستورا، وأن ما ورد فيها يصلح بالنسبة له أساسا للمحادثات في الجولة التالية، وللمفارقة فقط فإن رد النظام الأولي على الوثيقة كان بأنها "ستراجع في دمشق قبل الجولة القادمة من المحادثات".
وبعد نشر الوثيقة للإعلام وانكشاف تفاصيلها، وظهور مدى الخيانة التي تحتويها، بدأت مواقف ما يسمى بوفد المعارضة تختلف قليلا، وتتفلت من ردود الفعل الأولية، فقد صرح فؤاد عليكو عضو ما يسمى بالهيئة العليا للمفاوضات أن "دي ميستورا" أرسل للمعارضة الوثيقة التي أعدها ("ونحن بدورنا وضعنا ملاحظاتنا عليها"، لكننا لم نوقع أو نُبد موافقتنا عليها، لا سيما فيما يتعلّق بهيئة الحكم الانتقالي التي وجدنا ضبابية حولها... ولقد شدّدنا على تمسكنا بأن تكون هذه الهيئة كاملة الصلاحيات التنفيذية، بما فيها صلاحيات رئيس الجمهورية، وبالتالي رحيل الأسد عن السلطة".) (الشرق الأوسط 27/3/2016)، وفي تسجيل صوتي نسب لمحمد علوش على مواقع التواصل قال فيه "بأن كلمة الفصل في المبادرة التي طُرحت في جنيف هي لقادة الفصائل والثوار والشعب السوري لأنهم أصحاب القرار. وشدد على أنه لم يتم الموافقة أو التوقيع على هذه الوثيقة مشيرًا بأن هذه الوثيقة هي خاصة بالمبعوث الأممي لسوريا "ستيفان دي ميستورا" وهو من أخرجها ولم تكن بموافقة الطرفين". (شبكة رصد سوريا 27/3/2016).
وبالتدقيق في التصريحات الأولية والتصريحات اللاحقة يتضح بأن وفد ما يسمى بالهيئة العليا للمفاوضات لم ينف قبوله بما ورد في الوثيقة، وإنما تركز النفي على مسألة صلاحيات هيئة الحكم الانتقالي ومصير الأسد، أي النقاط التي لم تتعرض لها الوثيقة، أما النقاط التي تعرضت لها الوثيقة وذكرتها بالنص فالهيئة تلقتها بالقبول والترحيب واعتبرتها هي مطالب المعارضة، بل على حد قول الآغا بأن دي ميستورا استقاها من "البدهيات والمسلّمات"!.
ويستحسن هنا إلقاء نظرة خاطفة على تلك "البدهيات" و"المسلّمات" بالنسبة للهيئة العليا للمفاوضات والتي وردت في وثيقة دي ميستورا، فأول مبدأ من مبادئ الحل السياسي في سوريا أن استعادة الجولان المحتل يكون بالوسائل السلمية فقط، فقد جاء في وثيقة دي ميستورا (احترام سيادة سوريا، واستقلالها، ووحدة وسلامة أراضيها... وما زال الشعب السوري ملتزماً بأن يستعيد مرتفعات الجولان المحتلة بالوسائل السلمية.)، فهل يخبرنا أحد من تلك الهيئة العليا لماذا الجولان حاضرة في مفاوضاتهم مع النظام؟، وهل من بدهيات أهل الشام السلام مع "كيان يهود"، وهل يكون أول مبدأ تقوم عليه سوريا الخنوع "ليهود"؟!!
ومن مبادئ دي ميستورا علمانية الدولة فقد ورد فيها (سوريا دولة ديمقراطية غير طائفية تقوم على كل من المواطَنة والتعددية السياسية، وتمثيل جميع مكونات المجتمع السوري..) ومفهوم الدولة الديمقراطية يعني أن الحكم سيكون للشعب بتشريع الشعب، ومن بدهيات المسلمين أن التشريع لا يكون إلا لله، وبعيدا عن الحديث عن البطلان الشرعي لتحاذق بعض المفلسين ممن يروجون لفكرة أننا نسعى من خلال الديمقراطية للوصول إلى الحكم بالإسلام لأن أغلبية أهل سوريا سيختارون الإسلام في صناديق الاقتراع، هكذا، فيجوزون لأنفسهم في أن يكون التشريع لهم من دون الله، بالرغم من وضوح أدلة حرمة ذلك، وبل قطعية النصوص التي لا تجيز لأحد أن يشرع من دون الله، تأتي مبادئ دي ميستورا لتغلق الباب على هؤلاء وتقول لهم إن سوريا ديمقراطية تقوم على التعددية السياسية، ومصطلح "التعددية السياسية" (Political pluralism) مصطلح له مفهوم خاص يعني أن الحكم قائم على أساس تشاركي تحدد فيه سياسة الدولة باحتياجات ورغبات المجموع، فلا وجود للأغلبية، لأن الأفكار الأساسية للحكومة تتمثل بأفكار الأفراد والجماعات للتأكد من تلبية جميع احتياجات ورغبات جميع أفراد المجتمع، والديمقراطية التعددية تقابل الديمقراطية التي تقوم على حكم الأغلبية. وهذا يعني أن أغلب أهل سوريا لو اختاروا الإسلام فلن يكون هذا متاحا لأن الدولة قائمة على التعددية.
واللافت للنظر أن بعضا ممن استنكر ورقة دي ميستورا ممن وضع رجلا في المفاوضات ورجلا في الثورة لم يستنكر ما ورد في الوثيقة تفصيلا، بحيث يذكر عن بصر وبصيرة، أن سوريا لن يكون لغير حكم الإسلام وشرع الإسلام فيه نصيب قليل أو كثير، بل كان الاستنكار مجملا "لأنها تهدر متطلبات الشعب وتعيد إنتاج النظام"، وهذا الإنكار والاستنكار لا تبرأ به الذمة، وإنما ما تبرأ به الذمة في هذه الجزئية هو نبذ كل المفاوضات التي تديرها أمريكا، ونبذ كل من يفاوض النظام، والإعلان الصريح الواضح أن سوريا لن تكون مقرا أو مستقرا للكفر وأحكامه، وأن سوريا لن تكون إلا كما سماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم «عقر دار الإسلام»، ويمكن لدي ميستورا بعد ذلك أن يشرب ماء مبادئه لعله يذهب غصته بثورة الشام.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إعلان دي ميستورا لورقة مبادئه تلك، وإعلانه عقد جولة ثانية من المفاوضات قد تزامن مع اجتماع كيري ببوتين مدة أربع ساعات في موسكو واجتماعه بلافروف، ثم إعلانه المقتضب: "لقد اتفقنا على وجوب أن يكون هناك جدول زمني ومشروع دستور بحلول آب/أغسطس"، وقد قال كيري، في مقابلة مع قناة "روسيا-24" للحديث عن نتائج زيارته إلى موسكو: "في حقيقة الأمر، إننا راضون عن موقف موسكو القلقة من ظاهرة التطرف وتسعى لمحاربة تنظيم الدولة والمتطرفين الآخرين". وقال: "على الرئيس فلاديمير بوتين وروسيا اتخاذ عدد من القرارات المهمة حول كيفية عملنا المشترك"، معتبرا أن الجهود الأمريكية الروسية المشتركة لإحلال الهدنة في سوريا جاءت بنتائج إيجابية، كما أنها أتاحت الفرصة للبلدين لكي يعودا إلى تعاون أكثر فعالية بالمقارنة مع الفترة السابقة. وتابع كيري أن "الأحداث في سوريا تمثل خطرا على روسيا، نظرا لوجود آلاف الرعايا الروس في صفوف التنظيمات التي تحارب في الشرق الأوسط"، مضيفا بقوله: "نشاطر الرئيس بوتين قلقه حول احتمال عودة هؤلاء الإرهابيين إلى الوطن. لا أحد يريد ذلك. ونحن لا نريد أن يتوجه هؤلاء إلى بروكسل وباريس ومناطق أخرى في العالم لتفجير أبرياء هناك" (عربي 21، 27/3/2016)، وعلى الرغم مما يتضمنه هذا الكلام من تحذيرات تحوي في باطنها تهديدات إلا أنه فيما يبدو أن كيري قد حمل في "حقيبته الحمراء" لبوتين، الذي أبدى حماسا علنيا لمعرفة ما فيها، ما يضمن به بقاء روسيا منخرطة في خدمة أمريكا في الملف السوري.
وإعلان الاتفاق على البدء بالدستور بحلول آب/أغسطس القادم يعني أن بحث مصير الأسد مؤجل الآن، وهذا يعني أن أمريكا لم تنته من تحضير عميل بديل مناسب يحل محل عميلها القديم.
إنه من المحزن والمؤلم أن نرى نفرا ممن يحومون حول ثورة الشام، فلا هي منهم ولا هم منها، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا قنطرة للكفر ليعود ويستقر في بلادهم بعد أن أوشك أن يزول إلى غير رجعة، وقد أوصدت في وجهه الأبواب والنوافذ، ليخرق له نفر من أولئك خروقا في الجدران، وأنى لهم ذلك، فعسى الله سبحانه أن يرد كيدهم في نحورهم ويجعل الدائرة تدور عليهم، ثم ينكشف كل خائن وعميل، وتعود الشام أرضا للطهر لا ينبت فيها إلا الرجال الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
رأيك في الموضوع