في مثل هذه الأيام قبل تسعين عاما هجريا كتب العالم الجليل الشيخ تقي الدين النبهاني "رحمه الله" مؤسس حزب التحرير، مقالة نشرتها جريدة الجامعة الإسلامية في عددها رقم 515 الصادر في 1 محرم 1353هـ الموافق 15 نيسان 1934م. وقد أحببنا نشرها في هذا العدد من جريدة الراية بمناسبة العام الهجري الجديد للفائدة.
"طار زعماء العرب إلى المؤتمر ونظموا عقده الثمين واشتد بينهم الجدل، واستحرّ النزاع، وفاض الحديث، وهبت عواصف الحوار؛ ماذا يفعلون بمحمد وقد أقضّ مضاجعهم أمره، وأعيا حيلها شأنه بعد أن شاموا محو ضلالهم بسنا نوره، ولمسوا احتراق باطلهم بشهاب حقه وأيقنوا بأفول أمرهم إن أبْقَوا عليه، وبضياع ملكهم إن غفلوا عنه فامتدت ألسنتهم بشرر الشر، وأفعمتْ أفواههم بحمم الجحيم وطفقوا يتسابقون في اقتراحات الهلاك، ويستبقون شرف التضحية في سبيل النجاة من كابوسه وكان أسرعهم إلى جذوة نار الموت بقبسها أبو جهل لشدة اضطرام الشنآن في نفسه ولذوبان قلبه خشية انهيار مجده، قام بمليء اللظى شدقيه وقال لا سبيل إلى إخماد ثورة هذه النفس بعد أن اعتاض علينا أمره إلاّ بإزهاقها فترسل من كل قبيلة فارساً يرصده عند بابه حتى إذا خرج فيهم ضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد فقتلوه وضاع دمه في القبائل.. وحينئذ يقصر ذووه عن وتره ويعجزون عن المطالبة بدمه. وما إن وقف لسان هذا الكاشح الظنين حتى انفجر الهتاف من جوانب القاعة: سل هبل. قد صادفْتَ والله صفاء الثغر بسهام رأيك، وانفضّ ذاك الجمع الحاشد ومشت الفرسان مدججة بالسلاح إلى حيث ينام محمد ملء جفنيه عما يسهر النوم له ويختصم، وحينئذ أوحي إليه ما كان عجباً عجيباً، وأمُرَ بالهجرة إلى المدينة حيث الأنصار المؤمنون، وحيث قلعة الإسلام ومشرق نوره الذي ينبعث منه ضياء هداه، فنهض من وثير فراشه في الهزيع الأخير من الليل وأخذ قبضة من التراب ونثرها في وجوه أولئك الفرسان وقال: شاهت الوجوه وعلق الكرى بمعاقد أجفانهم وأخذتهم سنة من النوم حتى غطوا في موتتهم الأولى. فخرج عليه الصلاة والسلام بين صفوفهم وهم عنه عمون وسار قدماً إلى صديقه أبي بكر، وأمّا المدينة رائدَين معافاً ومنصراً.
أين محمد؟ وما إن انهزمت جيوش الظلام ولف فلق الصبح ثوب الدجى وأرسلت الغزالة لعابها وحرق الفرسان وهجها حتى هبوا من منامهم مذعورين، أين محمد؟ ادخلوا عليه الباب فإذا دخلوه وجدوا عليّاً مكانه مسجى بغطائه فانقلبوا خاسئين وأذاعوا تفريطهم بين الكفرة من فحولهم واستفزوا الشجعان وصرخوا فزعين في العرب، وضربوا طنابيبهم وطاروا لهذه الهيعة، وتفرقوا فوق أديم الدأماء وفي شعاب الهضاب والوهاد ينقبون عن غازيهم ويطلبون رأس سالبهم حتى كبت وجوههم وخابت ظنونهم، وحبط ما صنعوا فوقفوا بباب غار ضيق يقلبون أكف الندامة ويضربون آحاداً بسداس وسداساً في آحاد ويرمون نبال الحدس عن ملجأ فريستهم تارة يتأكدونه في الغار الذي عن يمينهم، وطوراً يظنونه في الكهف الذي تحت أرجلهم حتى أعمى الله بصائرهم وأبصارهم عنه فانقلبوا أسفين مدحورين وهم يحرقون الأرم غيظاً ولم يعرفوا أنه أقرب إليهم من بعضهم، وما دروا أنه تحت بصر عينهم إذ كان ملتجئا لذلك الغار، يرتاح من ضنى السفر، ويختبئ عن عيون الكفرة.
وما إن فقد الصوت منهم، وغابت عن بصره أشباحهم حتى انتفض واقفاً وقال لصاحبه: سر معي على بركة الله ألم أقل لك لا تحزن إن الله معنا؟ ومشيا الهوينا، لا تتحرك أفئدتهما من وجل، ولا تهتز مشاعرهما من إشفاق حتى أطلاّ على معقل أصحابهما وموطن أنصارهما فشاما الجموع الحفل، وسمعا الأغاني المطربة وأحسّا البشر الطافح في سرائر الوجوه، والنور الساطع فوق الجباه والدفوف تضرب بصوت الترحاب، والقلوب تصفق من طرب اللقاء بالبدر المنير والألسنة تردد نشيد السرور: طلع البدرُ علينا من ثنيّات الوداع، فحطت حينئذ عصا الترحال، وأرسلت سفينة البيد مراسيها إلى الأرض فأقام سيد العالم هناك، حيث ابتدأ يبني للعرب مجدهم الباذخ ويؤسس لهم عزهم الشامخ حتى أقامه صرحاً شامخ الذرى، ثابت الأساس، ضخم البناء، سامق المنْزلة، محكم الصنع. وغرس شجرة الدين، وأنبت روضة الحق لتكون للعالم عامة والعرب خاصة ثمراً يتعاقب على مر الدهور، يزداد طيباً ويربو حجماً، ويزكو طعماً كلما عتق وقدم.
"المصلح الأعظم"، نعم بدأ الإنسان الكامل، والمصلح الأعظم في إنقاذ الإنسانية من هوة الضلال وإخراجها من حندس الباطل، وتخليصها من صحراء التأخر وإحيائها من موت الهمجية والتوحش، وإطفاء ظمأ الجهالة وسوقها من مبادة الفساد إلى رفعة الرشاد، وضياء الحق، وروض التقدم، وحياة التمدين وسلسبيل العلم ومقر الصلاح. واتخذ لكل داء دواء، ورسم لكل سبيل وسيلة فحارب قريشاً لشدة شكيمتها، واستفحال داء الضلال فيها حتى عنت لسلطانه فآمنت بقرآنه، ودعا غيرها للهداية فانجذبت لنوره واستسلمت لأمره. تلك هي الهجرة وذاك هو أثرها، فإذا ما جعلناها يوماً نؤرخ فيه، وعيداً نبتهج بقدومه، ويوماً نجذل لذكراه فإنما نؤرخ أعظم يوم في دهر مجدنا، وأبهج عيد ارتفع فيه علمنا وأجذل ذكرى تهتز لها طرباً قلوبنا، لأنها تذكرنا كيف رفعت راية الإسلام وبأي سبب سمت عظمته وعن أي طريق سجل مجده في جبين الدهر ناصع الفخار. تذكرنا كيف يبنى صرح المجد، وكيف يرفع علم الحق، وأنّى يخلد تليد العز.
فحق علينا أن نكرر ذكراها كل عام ونحفل بيومها أي احتفال لأنها اليوم الذي انبثق فجر التاريخ فيه عن سنا منزلتنا وأشرقت فيه شمس سعادتنا وكان لنا به بيت الفخار الثابت الذي رسا أصله تحت الذرى وسما به فرع إلى السها، وحيك به برد العظمة والمجد الذي بز كل برود العالم، ولف العرب طوال حياتهم بين حواشيه وأبلّت جدثه وهو لا يزال قشيباً كأنه قد الآن من أديم السماء، وقص الساعة من هذا الدهر.
أجل حق لنا أن نحفل بذكراه لذلك ولأنّا نريد صلاح أمرنا وإرجاع تالدنا المجيد، وسابقنا القديم فنعرف أنه لا يصلح أمر العرب إلاّ بما صلح به أولهم فنسير في الطريق القويم.
محمد تقي الدين النبهاني"
رأيك في الموضوع