"هلّ هلالك يا رمضان شهر مبارك يا رمضان" عبارة كم كنا نرددها وكان لها وقع قوي ومؤثر في نفوسنا، وكلنا شوق لاستقبال هذا الشهر الغالي على نفوس المسلمين جميعا، فهو شهر كريم، وموسم عظيم، فضله الله على سائر الشهور بالتشريف والتكريم، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب السعير، وتصفد فيه الشياطين، فيه تنزل الرحمة، وتحط الخطايا، ولله فيه عتقاء من النار في كل ليلة، هو شهر التقوى والشفاعة يوم القيامة، وهو شهر البذل والعطاء واستجابة الدعاء، فالصائم حين يفطر هو أحد الثلاثة الذين لا ترد دعوتهم إلى جانب الإمام العادل والمظلوم.
شهر رمضان هو شهر القرآن، له عند رسول الله ﷺ مكانة وأي مكانة، فقد كان عليه صلاة الله وسلامه يقول لأصحابه رضوان الله عليهم: «قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ». وجعل الله سبحانه وتعالى للصائمين في الجنة باباً لا يدخل منه أحد غيرهم، كما جعل العمرة فيه تعدل حجة (أي ثوابها)، وفي بعض الروايات حجة مع النبي ﷺ، فإذا كانت عمرة في رمضان تعدل حجة لما فيها من المشقة مع الصوم، فماذا يعدل الجهاد في سبيل الله في رمضان؟
إن شهر رمضان هو شهر الصبر والنصر، شهر العزائم والانتصارات والذكريات، سجل فيه قادة المسلمين وأبطالهم أعظم المواقف التاريخية وأشرفها لأمة الإسلام، فكانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، فمن أبرز انتصارات المسلمين في أشهر رمضان على مر التاريخ، ابتدأت في السنة الثانية للهجرة بالغزوة التي فرقت بين الحق والباطل غزوة بدر الكبرى، تلاها الفتح الأعظم "فتح مكة" في سنة 8هـ، ثم معركة البويب ضد الفرس في العراق سنة 13هـ، ومعركة القادسية سنة 15هـ، والفتح الإسلامي لبلاد النوبة "السودان" سنة 31هـ، وفتح بلاد الأندلس سنة 92هـ، ومعركة بلاط الشهداء سنة 114هـ، وفتح مدينة عمورية "أنقرة" سنة 223هـ، ومعركة عين جالوت سنة 658هـ والتي انتهت بها وحشية التتار ضد المسلمين، وموقعة حطين سنة 584هـ، وفتح أنطاكية على يد الظاهر بيبرس في سنة 666هـ، وما حققه الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من انتصارات في رمضان.
يوم كان لنا دولة وإمام يطبق علينا أحكام الإسلام، كنا للدنيا سادة، وللعالم قادة، نعمل لإعزاز دين الله، كان رمضان شهراً متميزا ومظهرا قويا من مظاهر الحكم الإسلامي ووحدة الأمة الإسلامية وعزة الإسلام، يرفع الخلاف بين المسلمين ويوحد صومهم وعيدهم وحَجهم، لكن لما هُدمت الخلافة، فُقد القائد وتعطل شرع الله، ففُقدت الانتصارات، وصارت جيوش المسلمين حامية للغرب وحارسة على مصالحهم في بلادنا. وأعاد عملاء الغرب وأذنابهم الأوثان إلى البلاد التي طهرها الرسول ﷺ منها، فصار المسلمون في غربة في الديار والأفكار، دماؤهم مهدورة وأموالهم وثرواتهم مسلوبة، أعراضهم مستباحة وحياتهم لا يجدون فيها طعم الراحة.
لهذا فإنّ من أعظم الأمور وأولاها هو العمل من أجل تحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام التي تعلن الجهاد وتستنفر الجيوش لحمل الدعوة وتحرير البلاد ونشر الإسلام في ربوع العالم، فكما حقق المسلمون الأوائل انتصارات عظيمة فحري بنا أن نعزم على إعادة شهر رمضان شبيها برمضان أسلافنا نطهر البلاد وننقذ العباد فنحرر بيت المقدس الأسير وأهله من اعتداء وتسلط كيان يهود الغاصب فيعود للمسجد الأقصى المبارك والمسجد الإبراهيمي وغيرهما من المقدسات الإسلامية مكانتهم ونرى القدس عاصمة للدولة الإسلامية منها تنطلق الجيوش لتحرير العراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وتركستان الشرقية وحتى الهند والأندلس وتعود الشام عقر دار الإسلام.
مائة عام والمسلمون محرومون من فرحة استقبال شهر رمضان بدون خلاف بينهم على موعد بدء شهري رمضان وشوال، بدعوى اختلاف المطالع والتقارب والتباعد بين البلاد، لأهداف سياسية وحسابات فلكية، وصار رمضان شهرا للكسل والنوم وموضعاً لاستغلال وسائل الإعلام في إلهاء المسلمين بتوافه الأمور والملهيات المضيعة، فلنغتنم الفرصة ولنجعله مكاناً ينعطف فيه التاريخ عن مسار المهانة إلى مسار العزة والسؤدد والانتصار على الأعداء، فيكون هذا آخر رمضان دون خلافة وإمام للمسلمين، فالخلافة إذا قامت ستنهي فرقة المسلمين وشتاتهم وتمزيق بلادهم، لتعود أمتهم أمةً واحدة، ودولتهم دولة واحدة، تملك قرارها وسيادتها، وتتحكم في ثرواتها، وتطبق شرع ربها وخالقها ورازقها، فينصرها على أعدائها، ويحقق لها أهدافها.
أيها المسلمون الصائمون: اخلعوا عن رقابكم معصية القعود عن العمل لإقامة الخلافة الراشدة التي بشرنا بها نبينا ووعدنا بها ربنا سبحانه وتعالى وأجمع على إقامتها الصحابة الكرام؛ وأقبلوا على الله، رجالاً ونساءً، شيباً وشباناً، علماء وسوقة، مقتدين بصحابة الرسول ﷺ، حتى لا تَلقوا الله يوم القيامة لا حجة لكم، وحتى لا تكون ميتتكم ميتة جاهلية، وليس أقل من أن تكونوا عونا ونصرة للعاملين إن لم تتمكنوا من العمل معهم، فالأمة تحتاج إلى جهد المخلصين من أبنائها، ووقوفكم مع العاملين لإعزاز هذا الدين يرضي الله ويغيظ الكفار والمنافقين.
ويا أهل القوة والمنعة: حتى لا تبوءوا بغضب الله وحتى تكونوا كالأنصار وتنالوا المغفرة والرزق الكريم في الجنة اجعلوا من قوتكم التي حباكم الله إياها نصرةً لله ورسوله والمؤمنين، فتردوا سلطان الأمة المغتصب لتعقد البيعة لخليفتها المرتقب في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
نسأل الله أن يمن علينا بهذا الشهر الكريم، وقد ضاعفنا جهودنا وأعمالنا وشمرنا عن ساعد الجد والاجتهاد في هذه الأيام المعدودة التي سرعان ما تنتهي، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حاملين الدعوة إلى الإسلام بقوة وعزم، فيا فوز من أحسن اغتنامها، ويا خسران من ضيع وفرط، وقد قضى أوقاته يمني النفس ويَعِدها فقط، حتى إذا انقضى الشهر قال: ﴿يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ فهيهات هيهات أن يرد ما فات وأن يعوض ما ضاع، نسأله تعالى أن يجعلنا من جنودها وشهودها، وأن يقبضنا إليه ثابتين غير مبدلين.
"اللهم أهل علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة ودفع الأسقام، والرزق الواسع، والعون على الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن. اللهم سلمنا لشهر رمضان، وتسلمه منا وسلمنا فيه، حتى ينقضي عنا شهر رمضان، وقد عفوت عنا وغفرت لنا ورحمتنا".
رأيك في الموضوع