أما الرأسمالية، فقد حرمت الناس الخرقة والكسرة وهدمت الحجر، وأورثتهم السقم والجهل والخوف، ومحت مفهوم رعاية الشؤون من الأذهان. إِنَّ ذكر الرأسمالية يورث المرض، ويُسقم النفوس الزكية المتطلعة إلى رضا الرحمن، وما لم يُجتث هذا المرض من جسد الإنسانية، بقيت تصطلي بناره وشقواه، ولعل فكرة الملكية الفكرية من أبشع الأفكار التي أنتجها الفكر الرأسمالي ليكمل سيطرته على مفاصل الحياة في الدول التي تخضع لهيمنة الغرب على العالم لصالح فئة قليلة من الرأسماليين الكبار، وقد استفادت مافيا الدواء من فكرة الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، لتتحكم في سوق الأدوية فتطرح ما تشاء من أدوية بأسعار خيالية، وتمنع ما تشاء من أدوية لأنها لا تحقق لها الأرباح التي تريدها. وقد أخرت قوانين براءة الاختراع الانتفاع بكثير من المكتشفات المهمة؛ لأن الشركات تؤخر استعمالها لعدم قدرتها على حماية الاكتشاف. وخاصة في مجال الطب وصناعة الأدوية، فإنها الأكثر صعوبة من الناحية العملية وليس من الناحية القانونية. وهنالك أمثلة كثيرة تبين أن تصنيعاً لأدوية قد تأخر سنوات كثيرة مع أن الناس في أمس الحاجة إليها؛ وذلك لعدم التمكن من حمايتها بسبب بساطة الاختراع - لأنه إذا عُرف تمكنت الشركات الأخرى من إعادة الاختراع بطرق أخرى غير محمية - أو لأسباب عملية غير ذلك. وكم من دواء مفيد لم يتم إنتاجه لعدم توفر الجدوى الاقتصادية مع أهميته لحياة الآلاف من الناس.
والملكية الفكرية عند الغرب هي حق الأفراد والشركات بتملك الابتكارات إذا توفر فيها شرطان؛ الأول أن يكون هذا الابتكار إنشاءً جديداً غير معروف، والثاني أن يكون له تطبيق عملي أو استعمال مفيد، والقصد أن يكون له استعمال أو تطبيق معين أو مجرد تصور لذلك.
وحق التملك هذا يعطي حق تملك العين والمنفعة لصاحب الابتكار ولا يحق لأحد أن ينتفع بهذا الابتكار إلا بإذن صاحب الابتكار، وعادةً فصاحب الابتكار إما أن يحتكره وإما أن يبيع حق المنفعة بقيود معينة، وهذا يتم إما ببيع تسجيل البراءة لغيره وإما أن يأخذ رسماً على ذلك. وقوانين الحماية للملكية الفكرية تعطي حق ملكية الأفكار هذا عن طريق آلية ما يسمى بتسجيل (براءة الاختراع) فالذي يسبق إلى تسجيل الابتكار يكون مالك العين والمنفعة يتصرف بهما كما شاء.
وأحكام الملكية الفردية تشمل ملكية الأفكار والابتكارات. فصاحب الفكرة أو الابتكار هو مالكها وله حق الانتفاع بها وله أن يبيعها وأن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر كما أن له أن يدونها في كتاب أو على شريط أو غير ذلك ويبيعها أو يوزعها أو أن يحتفظ بها لنفسه وينتفع بها وحده. فهذا كله جائز وجاء به الإسلام. إلا أن للملكية الفردية وللبيع شروطاً جاء بها الإسلام أيضا. ومن شروط الملكية أن يكون للمالك سلطان على ما يملك أعطاه الشرع إياه. ومن أركان البيع أن ينتقل السلطان من البائع إلى المشتري. ولا سلطان للبائع على ما باع بعد البيع أي بعد إعطاء السلطان. وهذا ينطبق على الأفكار، فبعد أن يبيعها أو يعلمها لغيره تصبح ملك من تعلمها وله أن ينتفع بها أو أن يعلمها لغيره بأجر أو بدون أجر. وصاحب السلطان يحق له أن يفعل بملكه ما شاء مما أقره الشرع (ولا عبرة في بقاء سلطان للبائع في حالة بيع الأفكار، لأن العبرة في أن يحصل المشتري على السلطان على ما اشترى لا أن ينزع السلطان من البائع). والبائع لا يحق له أن يشترط شيئاً يخالف هذا لأن هذا من أركان البيع فإن خالفه أو اشترط شرطاً ينقص منه فإن ذلك مخالف للشرع ويكون الشرط باطلاً.
وبهذا يكون الإسلام قد أجاز تملك الأفكار وأعطى الحق بتعليمها أو بيعها بأجر أو بدون أجر كما أعطى الحق لمتعلمها أو لمشتريها أن يتصرف بها كما شاء ببيعها أو هبتها أو حتى إتلافها بما لا يخالف أحكاماً أخرى.
وهذا الحكم الشرعي كفيل بفتح السوق أمام منتجي الأدوية لإنتاج كل أنواع الدواء، فينخفض سعر الدواء بصورة كبيرة، ويصبح في متناول الجميع، بل ويُحفَّزُ البحث العلمي الذي لا يبقى متحجراً بسبب حيازة الأفكار ومنع تداولها، أو بسبب تركيزه على مجالات الربح وإهمال أمراض الفقراء. وثمة وسيلة بديلة لتمويل وتحفيز الأبحاث، وهي وسيلة أفضل كثيراً من نظام البراءات، سواء من حيث توجيه العملية الإبداعية أو ضمان انتشار الاستفادة من المعرفة على أوسع نطاق ممكن. وتتلخص هذه الوسيلة في إنشاء صندوق جوائز طبية من بيت المال يكافئ هؤلاء الذين يكتشفون العلاجات واللقاحات. ويمكن أن يقدم هذا الصندوق أكبر الجوائز لمنتجي العلاجات أو سبل الوقاية من الأمراض الأخطر والأكثر انتشاراً التي يبتلى بها مئات الملايين من البشر.
هذا من الناحية الشرعية وهذا يكفي لأن يبتعد المسلمون عن مثل هذه التطبيقات المخالفة للإسلام. ولكن مع انتشار المبدأ الرأسمالي في العالم وانبهار الكثيرين بل وانضباعهم به، كان لا بد من التعرض لهذه الأفكار الضالة بالحجة العقلية أيضاً لدحضها وبيان فسادها وفساد المبدأ الذي انبثقت عنه وكشف الصلة بين هذه الأفكار والاستعمار كشفاً سياسياً.
فإلى عفوٍ من الله وعافية ندعوكم أيها المسلمون، إلى علاج النفوس والقلوب وإخراج الناس منَ الظلمات إلى النورِ ندعوكُمْ، إِلى العملِ لاستئنافِ الحياةٍ الإسلاميةٍ، في ظل الخلافة على منهاجِ النبوةِ.
رأيك في الموضوع