عندما ابتليت الأمة بانحطاط الفكر ونجح الكافر المستعمر في هدم دولة الخلافة العثمانية، وتمزقت الأمة إلى أشلاء متناثرة، وتمزق نسيج وحدتها، وتسلط الأعداء على خيراتها، وفقدت الحكم بكتاب ربها وسنة نبيها، وخسرت العلم والتكنولوجيا، وتوقف الجهاد في سبيل الله وتحول إلى حروب فتنة بين أبنائها، وقامت أنظمة وضعية على أنقاض خلافتها... حكمت بالعلمانية في وقت جهل الأمة بأحكام دينها، وقد تعمد الكفار وعملاؤهم إخفاء حقيقة الإسلام وإبرازه على أنه دين منحصر في العبادات الفردية وليس له علاقة بأنظمة الحياة والدولة والمجتمع، فنشأ جيل على ذلك مقتنع بأن الإسلام ليس فيه نظام حكم ولا علاقة له بالسياسة من قريب ولا من بعيد، وعندها كان سهلاً على أعداء الأمة تطبيق العلمانية بكل سهولة ويسر وبدون مناهضة لها من المسلمين، إلا أنه بعد أن ظهرت الصحوة الإسلامية واشتد عودها وكثر أنصارها وأصبح تطبيق الشريعة غايتها وإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة طريقتها، عندها حارب الكفار وعملاؤهم الإسلام حرباً لا هوادة فيها، ولما خسر الكفار وعملاؤهم الحرب الفكرية وترنحت العلمانية ولفظها كثير من المسلمين وأصبحت الأنظمة العلمانية آيلة للسقوط واندلعت الثورات لإسقاطها، سارع الكفار إلى حماية كراسي عملائهم واستخدموا الأساليب المتنوعة لإنقاذهم، لمعت عندهم فكرة تسويق العلمانية من جديد، وبعد أن بان عوارها وانكشفت مفاسدها وظهرت سوأتها وأفلست أفكارها، فجاءت فكرة الدولة المدنية وكأنها غير العلمانية أو لا علاقة لها بها! فتصدى حزب التحرير الرائد الذي لا يكذب أهله لبيان زيفها وإظهار حقيقتها وبيّن مناقضتها للعقيدة الإسلامية ومخالفتها للأحكام الشرعية وأنها تسمية جديدة للعلمانية، فابتدع الكفار وعملاؤهم أساليب أخرى وسلاحا جديدا في حرب الإسلام وتسويق العلمانية من جديد، ويتمثل ذلك في الضربة الوقائية والخلط بين الحضارة والمدنية لكي تظل حقيقة الإسلام غائمة عند المسلمين فلا يدركون حقيقة النهضة وكيف يعودون خير أمة كما كانوا من قبل.
والضربة الوقائية هي استباق ضرب الإسلام وتشويهه عند المسلمين وإبرازه بصورة قاتمة ومقززة وبشعة خاصة عند المسلمين، وما (الحرب على الإرهاب) وتشويه فكرة الخلافة إلا من هذا القبيل، والغرب يعمل ذلك لحماية العلمانية من السقوط. ومن الضربة الوقائية لحماية العلمانية والأنظمة التي تحكم بها ضرب العاملين للخلافة وذلك بخلط الأوراق ووضعهم مع الأحزاب الفاسدة في سلة واحدة عبر البرامج الحوارية والبرامج السياسية الساخرة التي يقدمها المهرجون لغرس مفهوم خطير وخبيث؛ أن الأحزاب كلها سواء ولا يهمها إلا الحصول على السلطة ولو كان ذلك على حساب مصالح الأمة كلها، وهذا غير صحيح فـ"من يسوّي بأنف الناقة الذنبا"؟!
فوضع حزب التحرير في سلة واحدة مع الأحزاب الأخرى غير صحيح للاختلاف الكبير بينه وبينها في المنهاج وطريقة إيجاده في حياة الأمة، فحزب التحرير منهاجه الإسلام ويرفض كل ما ليس من الإسلام، فهو يسعى إلى تطبيق الإسلام وحده على المسلمين وحمل رسالته للعالم، بينما الأحزاب الأخرى تتسابق على تطبيق العلمانية وهي تتناقض مع عقيدة الإسلام وتخالف أحكامه، وطريقتها في الوصول إلى السلطة غير واضحة ولا محددة، فهي قد تسير على الانتخابات وصناديق الاقتراع إذا كان وصولها إلى السلطة مضمون النتيجة وإلا فإنها سوف تستخدم الانقلابات العسكرية وتُدخل الأمة في دوامة من العنف والصراعات، وتاريخها كلها شاهد على دمويتها عندما لا تكون الانتخابات في صالحها، بينما نجد أن طريقة حزب التحرير واضحة المعالم؛ تتمثل في الصراع الفكري والكفاح السياسي، فهو لا يستخدم الأعمال المادية مطلقا وطريقته ثابتة لم تتغير من أكثر من 60 عاما ولن تتغير لأنها الطريقة الشرعية التي رسم معالمها وخطواتها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحزب التحرير يدعو إلى وحدة الأمة، بينما الأحزاب الأخرى تعمل على استمرار تمزيقها، كما أن حزب التحرير ينبذ الوطنية والقومية والطائفية، بينما الأحزاب الأخرى تروج لها وتذكي نارها، وحزب التحرير يعمل لإقامة الخلافة الراشدة للحكم بالإسلام في جميع شوؤن الحياة وطرد النفوذ الغربي من بلاد المسلمين طردا كليا ورمي علمانيتهم وديمقراطيتهم في واد سحيق، بينما الأحزاب الأخرى تحافظ على بقاء بلاد المسلمين ممزقة تحكمها أفكار الكفر ويهيمن عليها نفوذ الكفار... فشتان بينه وبينها!
وأما الخلط بين الحضارة والمدنية فهو للتدليس على المسلمين لإقناعهم أن الإسلام أصبح قديماً كالتليفون القديم الذي كان مناسبا قبل عشرات السنين، بينما النهج الديمقراطي هو الأنسب لهذا الزمن فهو كالتليفون الحديث! ونسي المهرجون أن الإسلام قبل الديمقراطية بمئات السنين وأن العودة إلى ما قبل 1400 سنة هو العودة لعصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم وهو أفضل العصور في تاريخ المسلمين والعالم بأسره.
والخلط بين الحضارة والمدنية متعمد من الكفار والعملاء ويروج له عن جهل الأتباع والأشياع لعدم إدراكهم الفرق بينهما، فكم من مؤلف يفتتح مقدمة كتابه عن الحضارة بقوله عند تعريف الحضارة (الحضارة أي المدنية) فهو لا يميز بينهما بل هو يجعل الحضارة مرادفةً للمدنية وهذا خطأ محض يتعمد الترويج له الخبثاء ويصدقه البسطاء، فيقول قائلهم كيف يستخدم الخطيب الميكرفون الذي أنتجته الحضارة الغربية ثم يهاجم مفاهيمها وأفكارها من خلاله؟ كيف ينتفع بالميكرفون والتليفون والكمبيوتر والأجهزة الطبية والكهربائية والإلكترونية ثم يرفض الديمقراطية والعلمانية والحرية والعدالة الاجتماعية والخصخصة وقد خرجت جميعها من مشكاة واحدة (الغرب)؟
فكان لا بد من توضيح الفرق بينهما لإزالة الإشكالية عند البسطاء، حتى لا يدلس عليهم العملاء وأشرارهم:
فالحضارة هي مجموعة المفاهيم عن الحياة، فهي خاصة، ولكل أمة حضارتها؛ فالحضارة الإسلامية تختلف تماما عن الحضارة الغربية لثلاثة أسباب:
1- اختلاف الأساس الذي تقوم عليه الحضارة، فالحضارة الإسلامية تقوم على العقيدة الإسلامية بينما الحضارة الغربية تقوم على عقيدة فصل الدين عن الحياة.
2- مقياس الأعمال في الإسلام هو الحلال والحرام، بينما مقياس الأعمال للحضارة الغربية هو النفعية.
3- معنى السعادة في الإسلام هو نيل رضوان الله تعالى باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، بينما معنى السعادة في الحضارة الغربية هو الحصول على أكبر قدر من المتع الجسدية.
فالحضارة الإسلامية تتناقض مع الحضارة الغربية لأن مفاهيم كل حضارة تختلف عن مفاهيم الأخرى تمام الاختلاف.
أما المدنية فهي الأشكال المادية المستخدمة في شؤون الحياة وهي قسمان:
1- مدنية ناتجة عن الحضارة كالتماثيل الناتجة عن الحضارة الغربية لا يجوز أخذها كالحضارة سواء بسواء، وكذلك لبس المرأة المسلمة يختلف عن لبس المرأة الكافرة...
2- مدنية ناتجة عن العلم وهي عامة لا تختص بها أمة دون أخرى مثل التليفون والميكرفون وجميع الأجهرة المختلفة من كهربائية وإلكترونية وطبية وصناعات والسيارات والطائرات وغيرها...
فالحضارة لا يجوز أخذها من الغرب كنظام الحكم، فهو في الإسلام خلافة على منهاج النبوة بينما في الحضارة الغربية أنظمة ملكية وجمهورية... وهي أنظمة لا يجوز أخذها وتطبيق مفاهيمها، فهي سبب البلاء الذي حل بالمسلمين، أما المدنية الناتجة عن العلم فهي عامة لجميع البشر ويجوز أخذها من غير المسلمين.
والحضارة الغربية ومفاهيمها الفاسدة هي سبب انحطاط المسلمين، والتخلص منها ورفضها وإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي تحكم بالإسلام في جميع شؤون الحياة هو الذي يحقق نهضة المسلمين من جديد.
رأيك في الموضوع