"لولا أن الموت أتاني ومنيتي قد حانت، لجعلت جميع الدول الأوروبية تدين بالإسلام". كانت هذه الجملةَ التي قالها الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي عند وفاته. وكان ذلك في عام 1139م الموافق 589 للهجرة. هو يوسف بن أيوب الذي لُقِّب بصلاح الدين، والملك الناصر، وأبي المظفر. الذي تعرف الأمةُ قولته المشهورة: "إني لأستحي من الله أن أضحك والمسجد الأقصى أسير".
خلَّد التاريخ بطولات صلاح الدِّين الأيوبي رحمه الله، وعجزت أقلام المبطلين عن محو سيرته العطرة من ذاكرة الأمة. كيف وهو فاتح البيت المقدَّس ومن رأب الله به صدع الخلافة العباسية فقضى على فتنة الفاطميين، ووحدَّ جناحي الأمة: مصر والشامَ وحرَّر ساحل المتوسط من الاحتلال الصليبي بعد 70 عاماً من غطرستهم، وردَّ عن بلاد المسلمين هجمات الحقد الصليبي أكثر من مرة. فحارب ريتشارد قلب الأسد، وردَّ غورو وقتل أرناط وحارب بلدوين فانتصر عليه.
لم تنسَ الأمة يوماً العلاقة التي تربطها بدول الغرب، كما لم ينسوا هم كيف مرَّغ أسلافنا بالتراب كراماتهم. رغم غياب الخلافة، والصخب الإعلامي الهائل المسخَّر لبث أفكار التسامح والتعايش مع الغرب وجسر الهوَّة بين الغرب المتقدم ودول العالم الثالث، والدعوات للحريات والحضارة الغربية كقدوة ونموذج، وما يُنفق من أموال لجعل الغرب قدوة وأنموذجاً يُقتدى به في شؤون العيش كافة: بدءاً بالميول والهوايات، إلى الفكر الغربي كنموذج لنهضة البشرية وتقدمها، وليس آخرها اللباس وطريقة الأكل والحفلات والأعياد وملء أوقات الفراغ. ورغم ما يبذله الحكام العملاء من جهود لطمس معالم الهوية الإسلامية، وتكريس التبعيَّة الفكرية والانبهار الحضاري بالغرب في مناهج التعليم ورعاية المؤسسات الثقافية الأجنبية وفتح البلاد على مصراعيها لهذه الجمعيات لتبث سمومها وتدعو للفكر الغربي، بل وتشوِّه التاريخ وتبرز رجالاً كغاندي ومارتن لوثر وغيرهم على أنهم أبطال ودعاة إصلاح! وفي المقابل تطمس سيرَ الأبطال الحقيقيين كخالد بن الوليد، والسلطان سليمان القانوني، والخليفة عبد الحميد وصلاح الدين... تطمس سيرهم وتشوه ذكراهم في عقول الأجيال لتكسر الصلَّة بين الماضي والحاضر، وتوجد نشأً منسلخاً عن جذوره، فاقداً لبوصلته في الحياة.
رغم كلّ ما ذكر - وهو اختصار يحتاج مجلدات من الشرح لإيفائه حقه - فالأمة لم تزدها المحن إلا ثباتاً، ولا زالت ذكرى صلاح الدين خالدة في القلوب والأفئدة، تظهر في أناشيدنا وأهازيجنا ودعواتنا صغاراً وكباراً. ولا زلنا نطمح لعودة صلاح آخر، يحرر القدس مرةً أخرى، فلم نيأس وإن دام الاحتلال عقودا فتاريخ الأمة دوماً يقف مذكراً: أن انبلاج صبح هذه الأمة قادم رغم طول سنوات الظلمة. ويقيننا نابع من بشرى رسول الله ووعد القرآن: ﴿وَلَقَد كَتَبنَا فِي ٱلزَّبُورِ مِن بَعدِ ٱلذِّكرِ أَنَّ ٱلأَرضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ ٱلصَّٰلِحُونَ﴾ [الأنبياء: 105].
ولكن: أيَّ صلاح الدين نريد؟ أو كيف نعيد صلاح الدين مرةً أخرى؟
بدايةً يجب، حين الحديث عن شخصية عظيمة كصلاح الدين، أن لا ننساق وراء النسق الذي سطَّرته لنا المنابر الإعلامية المحسوبة على السلطة في بلاد المسلمين، أو على أسيادهم. يشمل ذلك: كتب التاريخ الحديثة التي جسدَّت صلاح الدين بدور البطل الخارق الذي ظهر كفردٍ شجاع يحارب وحده، في صورة تشبه أفلام هوليوود الأمريكية. ومناهج التعليم المدرسيَّة التي لقنَّت الأجيال أن صلاح الدين كان نتاج تربية أمِّه وأبيه الذي أسقطه أرضاً حين رآه يلعب مع الصبية، قائلاً: "ما كان لفاتح الأقصى أن يلعب". ورسمته في هذا الإطار فقط، واقتطعته من الصورة الكبرى التي كان عليها صلاح الدين حقاً وأدَّت به إلى تحرير بلاد الشام من رجس الصليبيين - في تقزيم لشخصية صلاح الدين -، ولفت الأنظار عن الطريق الحقيقي لتحرير القدس، وربطها بالتربية الفردية المحصورة في إطار الأسرة، بعيداً عن أجواء الحكم والجهاد وسلطان الدولة التي جاهد صلاح الدين تحت لوائها وفي ظل جيشها.
المسجد الأقصى الذي بعثت على لسانه رسالةٌ للناصر صلاح الدين بعد تحرير عكا وجاء فيه:
يا أيهـا الملك الذي لمعالم الصـلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طُهِّرتْ وأنا على شـرفي أدنس
هذا المسجد يئن الآن تحت الاحتلال الصليبي، وإن كان يهود هم الأداة الفعلية لهذا الاحتلال. يئن منذ 70 عاماً، ولا ناصر ولا صلاح. والغريب أن الأمة في توقها الشديد لصلاح آخر، لم تلتفت لموقع صلاح الدين ومكانته وكيفية تحريره للقدس. نريد صلاح الدين ولكن لم ندرس سيرته، ونريد من بناتنا وأمهاتنا أن يربين أبناءهن ليكونوا كصلاح الدين، ولكن لا يدركون بعد أن صلاح الدين يحتاج منا عملاً آخر، وهو إيجاد الدولة التي تحرك جيشها ليكون هو قائداً له فيحرر به بيت المقدس مرة أخرى. أجل نريد صلاح الدين. ونحتاج رجالاً أتقياء أنقياء مثله. ولكنَّ صلاح الدين ليس بطلاً خارقاً بالصورة المألوفة. ولن يعود بين ليلة وضحاها ونحن في كل أفكارنا وتصرفاتنا نكرِّس الواقع الذي نريد منه تغييره، ونحارب دون علم منا عودته.
صلاح الدين كان كردياً، ونحن كلَّ ساعة نتغنى بعروبتنا، كان صلاحُ عراقياً لكنَّه حارب تحت ظل دولة جمعت التركي والعربي ليحرروا بلاد الشام. ولا زلنا نتغنَّى بوطنياتٍ نتنة منتنة ونقدِّسُ حدوداً رسمها لنا أحفاد الذين حاربهم صلاح الدين.
صلاحُ الدِّين كان طالب علمٍ تربَّى على يد العلماء المجاهدين، وأمضى حياته يجاهد ليذود عن الإسلام، فكانت أول أفعاله في الطريق لبيت المقدس هي إعادة السلطان للخلافة الشرعية في بغداد والقضاء على "الفاطميين" المنشقين عن الخلافة. لكنَّ الكثيرين ممن يحلمون اليوم بعودة صلاح الدين، قعود عن العمل للخلافة وإعادتها، وإن طرأ ذكرها أصابتهم الرجفة وقالوا "أضغاث أحلام" وأمثلهم طريقة يقول: اذهبوا أنتم وأعيدوها وإنا ها هنا قاعدون!
قبل تحرير القدس، وحَّد صلاح الدين مصر والشام، وجمع شمل جيش الخلافة على قلب رجل واحد، فكان النصر المؤزر. فكيف نحلم بعودة صلاح الدين ونحن لا نقدِّم لعودته أي جهد؟ إن ظنَّ ظانٌّ أن صلاح الدين يعود بجهود الأمهات فقط، وتربية الأبناء على حفظ القرآن كما يحفظه معظم الناس، لمجرد الحفظ والتلقين. فيا لتعاستنا!
لا ألغي دور نسائنا ولا أقلل من الدور المنوط بهنَّ في إعداد الأجيال للمرحلة القادمة، والذين تحتاج الأمة كلَّ فردٍ منهم ليكون بقلب صلاح وهمتِّه وحبه للجهاد وتضحيته للإسلام.
ولكن، علينا أن نكف عن تجزئة قضايانا، والنظر للأمور بسطحية. يكفينا تسعون عاماً من رهاب التغيير الجذري والركون لأقل القليل في معركة التغيير الشامل الذي يستوجب العمل لإزالة عوالق نظام حالي وإحلال نظام الإسلام مكانه بشكل كلي مرة واحدة. تحرير القدس ليس منفصلاً عن توحيد الأمة، ولا إيجاد أبطال كخالد وصلاح بعيداً عن إيجاد الخليفة الجُنَّة الذي يُقاتل من ورائه ويُتَّقى به.
الطريق إلى القدس يمرُّ عبر كرسيِّ الحكم في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وآيات الله التي تُجعل واقعاً مطبقاً قبل أن تكون قرآناً تتلوه الشفاه، وترتله القلوب الخاشعة. فإعادة السلطان لهذه الأمة لتحكم بكتاب ربِّها وسنة نبيها، عبر نظام الخلافة التي حررت القدس قبل ذلك مرات عديدة، وجمعت شمل الأمة على الجهاد والاستشهاد، هو وحده السبيل لحياة كريمة فيها آلاف مثل صلاح الدين.
بقلم: بيان جمال
رأيك في الموضوع