كانت هجرة النبي e إلى يثرب، التي عرفت من حين وصوله إليها بمدينة النبي واختصارًا بالمدينة، إيذانًا بفجر جديد أطل على البشرية، ومعلمًا تاريخيًا ليس له مثيل في ابتداء التطبيق العملي لرسالة الإسلام وطريقته الخاصة المتميزة في العيش. فالدولة الإسلامية التي شيد صرحها رسول الله e بتعليمات الوحي الرباني لم تكن لها سابقة من قبل، ورغم أن بعض الأنبياء والرسل قد أوتوا الحكم والسلطان من قبل إلا أنّ الرسالة التي كلّفوا بها حينها كانت خاصة بهم وبقومهم، أما رسالة الإسلام التي أنزلت على محمد e فقد كانت رسالة عامة لسائر البشر وإلى يوم الدين، ومن هنا فإنّ بناء المجتمع الإسلامي في يثرب - المدينة - وبناء الدولة الإسلامية التي صاغت جميع شؤون الحياة في المجتمع الوليد الناشئ جاءت لتكون منارةً ونبراسًا تضيء للبشرية طريقها للعيش بسعادة وهناء في ظل الشريعة الإسلامية الخالدة.
وبعيدًا عن احتفالات المسلمين بذكرى الهجرة النبوية، وهم يحتفلون بها في أول محرم من كل عام هجري مع أنّ الرسول e وصل المدينة في يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الرابعة عشرة للبعثة، فإنّ المعنى الحقيقي للهجرة يتمثل في كونها شكلت حدًا فاصلا بين طورين من الرسالة النبوية: الطور المكي الذي شهد انطلاقة الدعوة منذ تنزل الوحي الرباني على محمد بن عبد الله e، ومرورًا بأعمال الصدام والكفاح العنيف ضد قادة الكفر الذين بذلوا كل ما في جعبتهم من وسائل في الإيذاء والقمع العنيف في محاولات يائسة ليطفئوا نور الله: من تعذيب المؤمنين وقتلهم إلى الحصار الاقتصادي الخانق إلى ملاحقة المهاجرين إلى الحبشة لإرجاعهم تحت سيطرتهم، ووصولا إلى التآمر لقتل النبي e عشية هجرته إلى يثرب. فالطور المكي كان عنوانه تسلط قادة الكفر على المؤمنين، أي أنّ المسلمين كانوا مستضعفين، أما الطور المدني فقد أصبح الإسلام في سدة الحكم والسيادة، فشرع المسلمون ليس فقط في بناء مجتمعهم الوليد الجديد وفق الرسالة الربانية بل في القيام بالأعمال التي تمكنهم من نشر الدعوة الإسلامية في العالم، وأول ذلك جوارهم في الحجاز وصولا إلى تحرير مكة من رجس الكفر وإزالة الأصنام الوثنية فيها وإخضاعها لحكم التوحيد، ومن ثم السياحة في الأرض لنشر كلمة الله حيثما وصلت جحافل المجاهدين شرقًا وغربًا. وبين هذا وذاك تتالى الوحي الرباني يرعى ويصوغ تفاصيل الحياة الإسلامية الجديدة في المدينة في أدق تفاصيلها وعلى كل الصعد: بين الفرد ونفسه، وبين الفرد وغيره من الناس، وبين أمة الإسلام وغيرها من الأمم، وبين الدولة الإسلامية الوليدة وسائر الدول الخارجية وصولا إلى التصدي للامبراطوريات الهرمة - الفرس والروم - التي كانت تسوم الناس سوء العذاب وتقوم على عقائد باطلة ما أنزل الله بها من سلطان.
فالرسول e لم يهاجر من مكة خوفا على نفسه وصونا لها من أذى قريش فما كان يحسب لذلك حسابا، بل كان همه وشغله الشاغل أن ينتقل في دعوته من مرحلة الدعوة إلى مرحلة التطبيق العملي، فلا عبرة للأفكار النظرية مهما كانت خلاّقة ما لم توضع موضع التطبيق، وبعد أن أثبتت الأحداث والوقائع تجمد المجتمع المكي في وجه الدعوة الإسلامية، كان لا بد من الهجرة إلى يثرب التي وفرت الأرضية الصالحة لانطلاقة الدولة الإسلامية بعد أن احتضن جل أهلها الدين الجديد وانتشر الإسلام في كل دورها أو معظمها، وتجسد هذا كله في بيعة العقبة الثانية التي بايع فيها قادة يثرب الرسول e على أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم ولهم الجنة.
وهكذا نرى، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، أنّ ثباته e على المنهج الرباني في حمل الدعوة في مكة المكرمة وصبره، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، على المكاره والأذى دون أن يحيدوا قيد شعرة قد أثمر وآتى أكله في الأجل المضروب في علم الله الحكيم الخبير، فلم تزعزعهم الفتن ولا المحن ولا ما تفتقت عنه عقول قريش من أساليب وفنون التعذيب والمكر بالدعوة وأهلها. بل إننا نجد في جواب الرسول e لمولاه زيد بن حارثة الذي سأله، بعد أن خرج الرسول e ماشيا إلى الطائف، التي تبعد ستين ميلا عن مكة، ورده أهلها ردا قبيحا، "كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد أخرجوك (يعني قادة قريش) فقال e: «إنّ الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه»، وفي جوابه هذا ملء الثقة واليقين بوعد الله الحق بإظهار دينه ونصرة نبيه. ونحن نعلم قوله تعالى ﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فلو كان الرسول e يعلم أنّ النصر سيأتي من أهل يثرب، وأنّ أهل الطائف لن يقبلوا دعوته، لما عنى نفسه بالخروج إلى الطائف. كما أننا نجد في جواب الرسول e للعباس بن عبادة الذي قال له في ختام بيعة العقبة الثانية: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدًا بأسيافنا، فأجابه: «لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم»، فإذن ما بين هذا وذاك، ومنه قوله e لآل ياسر وهم تحت التعذيب: «صبرًا آل ياسر فإنّ موعدكم الجنة»، نجد انضباطا دقيقا والتزاما بتوجيهات الوحي الرباني، يغفل عنه للأسف كثير من الدعاة والحركات الإسلامية اليوم، الذين يصرون على اتباع سبل ملتوية شوهاء بعد أن زعموا أنّ طريقة الرسول في حمل الدعوة ليست بواجب شرعي، وأباحوا لأنفسهم الاجتهاد في غير موضعه، فتعجلوا السير وخالفوا نهج النبي e في الطريقة الشرعية لإقامة الدولة الإسلامية، فمنهم من سلك سبيل الديمقراطية من انتخابات برلمانية وتحالفات مع جماعات علمانية تروج لفكر الاستعمار الكافر، بما في ذلك مقولة ما يسمى "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية"، ومنهم من أعرض عن العمل السياسي بالكلية مكتفيا بالوعظ والإرشاد، ومنهم من أبى إلا الإصرار على جعل الجهاد السبيل لإقامة الدولة الإسلامية مع أنّ الجهاد لم يشرّع إلا بعد إقامة الدولة، وشرّع لنشر الإسلام في العالم كما للدفاع عن الدولة بعد إقامتها، ومنهم من دفعه تعجله وقصر فهمه على زعم "تقاطع المصالح" فدعا إلى الاستعانة بهذه الحكومة أو تلك لإقامة الدولة الإسلامية، ولو أرادت هذه الحكومة المزعومة تطبيق الشرع لطبقته هي بدلا من محاربة الله ورسوله والداعين لتطبيق الشريعة، ولعلنا نفصل في مقال آخر الطريقة النبوية في كيفية إقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة. فما أحرى المسلمين اليوم بالتوقف طويلا عند الدروس والعبر المستخلصة من نهج النبي e في حمل الدعوة في مكة وفي إقامته دولة الإسلام الأولى في المدينة، ومكانة الهجرة النبوية في هذه المسيرة المباركة.
رأيك في الموضوع