ليس حزب التحرير هو الذي حدد الطريقة الشرعية لإقامة الخلافة، بل الشرع هو الذي حددها، وسيرة رسول الله ﷺ تنطق بذلك. وقد سبق إقامة الدولة طلب الرسول ﷺ النصرة من أصحاب القوة والمنعة، واستمر في طلبها منهم حتى يسَّر الله سبحانه الأنصار له فبايعوه بيعة العقبة الثانية، وبعد أن كان مصعب رضي الله عنه قد نجح في مهمته التي كلفه بها رسول الله ﷺ في المدينة المنورة، وأوجد فيها رأياً عاماً للإسلام، فتعانق الرأيُ العام مع بيعة الأنصار، ومن ثم أقام ﷺ الدولة في المدينة ببيعةٍ نقية صافية، واستقبال حار من أهل المدينة المنورة.
ولا بد هنا من الإشارة إلى قضية بالغة الأهمية وهي أنه سبحانه عندما يطلب منّا القيام بعمل على وجه محدد لتحقيق نتيجة معينة، فلا يرد احتمال أن لا ينتج العمل ما وضع لأجله، لذلك كان التزام الطريقة الشرعية في إقامة الدولة الإسلامية على الوجه الذي عينه الشارع سينتج عنه لا محالة قيامها، فالنصر المقطوع به والنصر الموعود به، لا سبيل إليه إلا من خلال هذه الطريقة الشرعية.
لذلك فإن أعمال الكتلة التي طلب الشارع القيام بها بحسب ما قام به رسول الله ﷺ في مكة لإقامة الدولة الإسلامية، مع تجاوب الناس بالرأي العام المنبثق عن الوعي العام، وتجاوب أهل القوة والمنعة مع الكتلة، كل ذلك مجتمعا يصح تسميته سبباً، ولا ينطبق ذلك على أجزائها منفصلة بعضها عن بعض، فالتثقيف وحده ليس سبباً وطلب النصرة وحده ليس سبباً، والرأي العام وحده ليس سبباً، وإنما مجموع الأعمال يكون سبباً، ويصح أن يطلق عليه أنه سبب، لأن تلك الأعمال كلها التي قام بها رسول الله ﷺ في مكة نتج عنها إقامة الدولة في المدينة، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن نصرته لنبيه ﷺ في إقامة الدولة بالمدينة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا﴾.
وقد دلّت النصوص الشرعية على أنه لا بد من تحقيق شروط معينة مع السبب ليتحقق النصر، وانتفاء موانع تحول دون تحققه، فوعد الله سبحانه بالنصر والتمكين ليس وعدا مفتوحا غير محدد، بحيث يطلبه من ليس أهلا له، وباستعراض هذه النصوص يظهر لنا محددات هذا الوعد الرباني ومن هم أحق به وأهله. فالوعد مقصور بعد الأنبياء على عباد الله المؤمنين السائرين على طريق الأنبياء في إنفاذ ما أمر الله به، وإعلاء دينه، وهذا واضح في كل الآيات؛ فقد حصر سبحانه وعده بعد المرسلين للمؤمنين فقط، قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾، ومن هذه الشروط التأهل للقيام بدين الله وشرعه بعد النصر. وقال تعالى في إيضاح صفة من يستحق النصر: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور﴾، فمن ليس أهلا لتولي هذه المسئولية ليس أهلا للنصر، لأن النصر لحظة فاصلة تزول بها الموانع التي تحول بين المؤمنين وبين تحكيم دينهم والعمل به، فلذلك وجب أن يكونوا مؤهلين لحمل هذا العبء، وظاهر أن صفة أولئك الذين وعد الله بنصرهم هي تأهلهم لإقامة دين الله على وجهه المأمور به، فمن لم تتحقق فيه الأهلية والكفاية لإقامة دين الله لم يتحقق فيه الوصف المطلوب حتى يتمه.
جاء في ظلال القرآن في تفسير هذة الآية: (وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه، فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله، فيستحقون نصر الله، القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه؟ إنهم هؤلاء الذين ينصرون الله، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة، معتزين بالله وحده دون سواه، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين. فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته؛ المشروط بتكاليفه وأعبائه. إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة؛ من انتصار الحق والعدل، وهو نصر له سببه، وله ثمنه، وله تكاليفه، وله شروطه. فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه..)
وحزب التحرير وهو يعمل لاستئناف الحياة الإسلامية بالطريقة الشرعية، فهو يعمل منذ نشأته للإعداد لاستحقاقات الكيان التنفيذي والكيفية التي سيصار بها إلى تنفيذ أحكام الإسلام على الواقع منذ اللحظة الأولى لإقامة هذا الكيان؛ لذلك كانت دعوته على بصيرة من الشرع من أول يوم، وكانت منضبطةً بما جاء به الوحي من عند الله، وتقتفي أثرَ رسول الله ﷺ.
إن دولة الخلافة التي يعمل لها حزبُ التحرير، إنما هي الخلافة الحقة غير المشوَّهة ولا المشبوهة، والتي تقوم على موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أي الدولة التي تُعلي كلمةَ الله حقيقةً وتطبق الإسلام تطبيقاً حقيقياً يُنهي نفوذ الغربِ في بلاد المسلمين، ويمنع دخوله في الأمة مجدداً. هي الدولة التي ستجسد وحدةَ المسلمين وتُحسن الرعايةَ وتعيد للأمة عزتها ورفعتها، هي الدولة التي تُذل الكفرَ وأعوانه وتُعز الإسلامَ وأهله.
ومن ذلك جدِّية الحزب ووعيه على مجريات الأحداث السياسية في العالم، وعملُه في الأمة على أعلى مستوى في مصارعة ما يتناقض مع الإسلام، وإدراكُه لأحوال شعوب العالم ودوافع دوله في الصراع العالمي على المصالح والنفوذ، وللأساليب والألاعيب على المستوى الدولي فيما تقوم به الدول الفاعلة عالمياً، تماماً كما كان عليه رسول الله وصحابتـُه بوصفهم قادة سياسيين عظاماً، ورجالَ دعوةٍ ودولة بارعين. وهو ما جعله يكتسب خبرة سياسية واسعة في هذا الشأن، حتى صارت ميزته الصدق مع الأمة والنصح لها والجدية والوعي السياسي، وبات يمتلك اليومَ رجالاً من الطراز الأول في مجال رعاية شؤون الناس والقيام بمهمات تسيير الدول، فكان حقّاً أن يُرى فيه الجدارةُ والأهلية لتحقيق شروط النصر على يديه بإذن الله في قيادة الأمةِ صوب مكانتها اللائقة بها في المعترك الدولي، وفي حمل رسالة الهدى إلى العالم بكل قوة وتحدٍّ.
والحزب يريد للأمة أن تعلم أنه أعد دستوراً جاهزاً للتطبيق في مجالات الحياة كافة، في الاجتماع والاقتصاد والحكم والإدارة والتعليم والسياسة الداخلية والخارجية، ومواده مستنبطة من القرآن والسنة، وأن الدولة التي يتأهب الحزب لإقامتها قد جهز لها بالفعل بتفصيلاتها.
ويريد الحزب أن يلفت نظر الأمة أنه في تمام الجهوزية، وأنه قد أعد للأمر عدته بإذن الله، وأنه معروف عنه عراقته في السياسة الدولية وأحابيلها، ووعيه السياسي ومتابعته الحثيثة للدول الفاعلة في الموقف الدولي، فلطالما كشف مستور مؤامرات الدول وخصوصاً في بلاد المسلمين وتنفيذ حكام المسلمين، وهذا يطمئن أن الخلافة سيقودها، إن شاء الله تعالى، رجال حاذقون في السياسة ماهرون في التعامل مع كل القضايا السياسية الخارجية والداخلية منها.
فإننا مطمئنون لنصر الله سبحانه وتعالى، ونؤكّد أننا نلتزم طريقة رسول الله ﷺ في إقامة الخلافة، وأننا لم نتنكب الطريق، ونسير عليه بحذافيره، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بنصره الذي وعدنا به، وبشرنا به رسوله ﷺ، فنقيمها خلافةً راشدةً على منهاج النبوة.
بقلم: د. أحمد حسونة
رأيك في الموضوع