منذ أن نجح الإنجليز في احتلال فلسطين ونجح قائدهم الجنرال ألنبي بالسيطرة على مدينة القدس يوم 11 كانون الأول/ديسمبر عام 1917 لينهي بذلك حكم دولة الخلافة العثمانية في الأرض المباركة والذي امتد لأربعة قرون وليعلن بدء حقبة جديدة من الاحتلال الصليبي للأرض المباركة، منذ تلك اللحظة السوداء في تاريخ الأمة الإسلامية وقضية فلسطين تمر بمحطات ومنعطفات وأحداث مهمة وخطيرة، وعند كل منعطف كان للأرض المباركة واجب ثابت على أمة الإسلام لم يتغير، وهذا الواجب هو ما سوف نسلط الضوء عليه في ظل الهجمة الشرسة التي يشنها كيان يهود على أهل فلسطين بعامة وأهل غزة بشكل خاص بعد الضربة الموجعة التي كسرت هيبة جيشه ومزقت صورته ضمن معركة طوفان الأقصى التي نفذها المجاهدون وخاصة كتائب عز الدين القسام انطلاقاً من قطاع غزة.
وقبل الانتقال إلى الواجب الثابت الذي هو محور هذه المقالة لا بد من الإشارة إلى أن ما يحصل في فلسطين هو صراع ديني عقدي بين المسلمين والكفار، وليس صراعاً تاريخيا أو جغرافياً أو وطنياً. وقد صرح ألنبي بذلك حينما دخل القدس وفق ما جاء في مذكراته، حيث كتب "أنه حينما دخل القدس استطاع تحرير أقدس مدينة في العالم، وأنه بتحريرها تمكن العالم المسيحي من استرداد أماكنه المقدسة"، ولأن بريطانيا تعلم بأنه لا يمكن الفصل بين واجب الأمة الثابت تجاه فلسطين وبين الأرض المباركة التي تشكل جزءاً من عقيدة المسلمين فقد اختارت أن يكون التسليم ليهود - تنفيذاً لوعد بالفور - تحت غبار حرب مزيفة بالعدة والعتاد والذخيرة وكل ما يرسم ويشكل تفاصيل أي معركة عسكرية حقيقية، طبعا باستثناء جنود مخلصين غير مدركين لما يحصل، دافعوا حتى آخر رمق عن مسرى نبيهم ﷺ؛ فمنهم من استشهد ومنهم من ساعد مجبراً في إخراج مسرحية ظنها معركة حقيقية! على كل الأحوال سميت تلك المسرحية بحرب 1948م التي هزم فيها كيان يهود جيوشَ ست دول عربية ناهيك عن المتطوعين من بلاد أخرى، وهكذا نشأت صورة كاذبة عن قوة جيش يهود وصورة مزيفة عن عدم تمكن الأمة الإسلامية من استعادة الأرض المباركة وعجزها عن القيام بواجبها تجاه فلسطين، وبدأت حقبة متعلقة بجيش يهود وبدور الأمة تجاه فلسطين.
هذه الحقبة هي حقبة اللاحرب والعمل على تصفية قضية فلسطين وفق مشاريع الاستعمار وخاصة مشروع الدولة الواحدة الذي يشمل يهود وأهل فلسطين، يكون الحكم فيها ليهود ويتم دمج هذه الدولة في المنطقة، وبذلك ينتهي واجب الأمة الثابت تجاه فلسطين، ولكن شاء الله أن يتغير الموقف الدولي وأن تدخل أمريكا بقوة على الساحة الدولية وتفرض رؤيتها الخاصة في العالم ومنطقة الشرق الأوسط، والتي كانت في فلسطين مشروع الدولتين وصناعة منظمة عميلة تعينها على فصل القضية عن عمقها الإسلامي والعربي، فكانت منظمة التحرير، والهدف هو الفصل بين قضية فلسطين وواجب الأمة الثابت تجاهها، ومن ثم كان هروب بريطانيا من المشروع بتسليم الضفة الغربية التي تمثل الأرضية التي من المفترض أن تكون للدولة الفلسطينية القادمة وتسليمها على يد عميلها الملك حسين ليهود دون قتال، وهي مكرهة سياسيا وعالمة، لخبرتها الطويلة في صراع أمة الإسلام، أن المسلمين لن يتقبلوا وجود دولة يهودية في فلسطين وسيبقى واجبهم الثابت تجاهها ينتظر من يستثيره في صدور المسلمين، وهذا الواجب الثابت الذي لم يتغير بتغير الاحتلال من الإنجليز لليهود، ولم يتأثر بتغير المشاريع من مشروع الدولة الواحدة إلى مشروع الدولتين ولم يُقضَ عليه بالنزعة الوطنية التي أرادت منظمة التحرير ترسيخها، وبقي ثابتاً كما هو أصل الصراع؛ صراع ديني ثابت بدأ بدخول ألنبي القدس وتأجج بمحاولة يهود تقسيم المسجد الأقصى وسينتهي قبل حصول ذلك بعون الله وقدرته.
هذا الواجب الثابت هو إعلان الجهاد وتحريك الجيوش عسكرياً لتحرير الأرض المباركة كما حررها صلاح الدين من الصليبيين وأنقذها الظاهر بيبرس من التتار، وهو ثابت في عقيدة الإسلام لا يتغير تجاه كل أرض تُحتل من بلاد المسلمين، فكيف الحال والحديث عن الأرض المباركة والمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى ومسرى النبي ﷺ؟! وهذا الواجب الثابت الذي لا ينفصل عن عقيدة كل مسلم هو ما دفع بريطانيا لمحاولة دفنه بمسرحية أو ما يسمى حرب عام 1948م، وهو ما حاولت أمريكا تجاوزه بإنشاء منظمة التحرير وجعلها تحمل شعار الممثل الوحيد والشرعي لقضية فلسطين، وهو ما حاول الحكام العملاء في بلاد المسلمين الالتفاف عليه بتقديم الدعم المالي والمساعدات والجعجعات والاجتماعات والتصريحات الساخنة أو شبه الساخنة في كل لحظة تستصرخ فيها فلسطينُ الأمةَ وتشعر الأمة بضرورة إجابة ندائها والتحرك لأجلها ولأجل مسرى النبي ﷺ ولأجل دماء وأعراض إخوانهم.
وها هي قضية فلسطين مرة أخرى تمر بمرحلة خطيرة تذكّر الأمة بواجبها الثابت والشرعي، وهو التحرك العسكري وإعلان الجهاد لتحريرها، وها هم الحكام وكعادتهم يحاولون الالتفاف على ذلك بشتى الأساليب والوسائل من مساعدات وتصريحات ومناورات سياسية... ولكن الفارق هو أن الأمة قد تغير حالها، وقد باتت تدرك خيانتهم جيداً، وكذلك قد تحطم الإطار الوطني الذي تبنته منظمة التحرير لتقزيم القضية بعد أن ثبتت خيانتهم وكفر الناس بمشروعهم الخياني، وأيضاً ظهر للقاصي والداني مدى حاجة أهل فلسطين والمجاهدين للأمة وجيوشها لحسم الصراع وتحرير البلاد ووقف نزيف الدم وكسر هذا الغطاء الدولي الذي يتغطى به يهود، وبات واضحا أن بطولات المجاهدين في فلسطين ليست ذريعة عند الأمة لعدم القيام بواجبها، بل إن المجاهدين في هذه المرحلة يحتاجون للأمة أن تسندهم وتنصرهم أكثر من أي وقت مضى، وهم يستنصرونها للقيام بواجبها.
وفي الختام يلخص كل هذه المقالة قولُه تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾، وهذا ما كان حزب التحرير حريصاً في كل لحظة ومحطة على تذكير الأمة به وقيادتها لتنفيذه، وهو ما ندعوها إليه اليوم.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع