انعقد في 23/4/2015 مؤتمر أوروبي لبحث مسألة (الهجرة نحو أوروبا)، عبر البحار من البلاد العربية، وخاصّة البلاد المغاربية، فقد أورد (موقع الجزيرة نت) في 24/4/2015 تقريرا جاء فيه: "... قرر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي - بعد قمة استثنائية، مخصصة لملف الهجرة السرية في (بروكسل) أمس الخميس 23/4/2015 - زيادة الميزانية المخصصة لعمليات مراقبة الحدود البحرية؛ في إطار عملية "تريتون" التي أطلقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. وتعادل الميزانية - التي تصل إلى (تسعة ملايين يورو) شهريا لمراقبة الحدود البحرية، وإنقاذ المهاجرين الذين يحتاجون إلى الإغاثة- ميزانية العملية السابقة؛ التي كانت تقودها إيطاليا بين أكتوبر/تشرين الأول 2013 وأكتوبر/تشرين الأول 2014، قبل إطلاق "عملية تريتون"، وأعلن المفوض الأعلى للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (أنطونيو غوتيريس) أن أكثر من (1600) مهاجر غرقوا، أو فقدوا في البحر المتوسط منذ مطلع العام؛ أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، وتقول مديرة مكتب منظمة العفو الدولية لدى المؤسسات الأوروبية (إيفيرنا مكجوان) للجزيرة نت: "إن عملية تريتون - إذا لم يتم تغييرها - فلن تكون الحل، حتى وإن حصلت على الموارد المطلوبة، مشيرة إلى أن الاتفاق في القمة حول مجموعة من الحلول الحقيقية كان ممكنا"، و"لكن ذلك لم يتم".. وتطالب مجموعة من الجمعيات الحقوقية، والعاملة في مجال الهجرة باعتماد سياسة تقطع جذريا منع القوانين القمعية للمهاجرين، وتكرس ضمان حقوقهم الإنسانية، ومنها: "تطبيق القوانين التي تنص على حرية المهاجرين لمغادرة أي بلد، بما في ذلك بلدهم"،كما تطالب بضمان حريتهم في دخول أراضي دولة أخرى، مع مضاعفة إمكانيات تسهيل الدخول القانوني للمهاجرين إلى أراضي أوروبا، وإغلاق المراكز التي تحجز المهاجرين، وإيقاف عمليات الطرد القسري المخالفة للمعاهدات الدولية.
ولا بد من الوقوف قليلاً عند هذا الأمر الجلل العظيم، وسوف نتحدث عنه من عدة زوايا:
1- إنه لمن المخزي أن تجتمع الدول الأوروبية، وحكامها وساستها؛ لبحث هذه المسألة، وخاصة بعد حوادث الموت الجماعي في البحار، ولا تهتز لحكام المسلمين وساستهم قصبة، ولا يتحرك فيهم أي شعور نحو هؤلاء المضطهدين المعذبين المشردين.. وكأن هؤلاء المهجرين هم من كوكب آخر، ولم يخرجوا من بلاد المسلمين، وأن أمرهم لا يعني هؤلاء الحكام بشيء،.. ولو أن هذا الأمر قد حصل مع سفينة تحمل رعايا أمريكان أو حتى يهود، على شواطئ بلاد المسلمين لاستنفر لها هؤلاء الحكام كل طاقاتهم وجهودهم ولملأوا الأرض صراخاً وتصريحات منافقة.. فأي صنف من الحكام هؤلاء، وهل يستحق هؤلاء الحكام أن يكونوا على رقاب المسلمين؟!
2- لو نظرنا إلى الأسباب التي دعت هؤلاء المشردين إلى الهجرة؛ بحثاً عن أسباب الرزق أو غير ذلك، فإننا نرى أن هذه الأسباب هي: (الجوع وشدة ظروف العيش القاسية عليهم، وقلة الأمن وانتشار الرعب، والخوف والحروب الطاحنة داخل المدن والأحياء السكنية..)؛ فلا يخرج من بلده إنسان مرتاح مطمئن؛ تتوفر لديه أسباب الراحة والهدوء وحسن الرعاية فيه، لكن الناس يخرجون من شدة البلاء الذي يعيشون؛ في سوريا وليبيا وتونس.. وغيرها من بلاد المسلمين، فيؤثرون الموت عبر البحار، على الموت تحت القصف والدمار والخراب أو الموت جوعاً.. فمن الذي أخرج هؤلاء الجياع من أوطانهم وأرضهم وديارهم..؟!، وما هو سبب الضيق في العيش الذي ألمَّ بهم..؟!، وهل ضاقت بلادهم عليهم بما رحبت، وبما زخرت من خيرات وثروات هائلة - ظاهرة وباطنة - حتى يضطر هؤلاء الجياع للخروج من أرضهم نحو بلاد الكفار؟!
إن الذي أخرج هؤلاء هو الظلم والتسلط على رقابهم، والقتل والخراب والدمار الذي يمارسه حكامهم - بأمر من أمريكا ودول أوروبا - ونهب الثروات لصالح الشركات الأجنبية؛ من بترول وغاز ومعادن وثروات بحار، ونهب ما بقي من هذه الثروات لصالح جيوب الرأسماليين الكبار في تلك البلاد والذين لا يشكلون 2.5% من مجموع السكان في بلاد المسلمين..
3- إن الثروات في بلاد المسلمين تكفي المسلمين، وتزيد أضعافاً كثيرة عن حاجاتهم، وهي تكفي لبلوغ حدّ الغنى عند كل فرد من أفراد أمة الإسلام... فلو أخذنا بعض الإحصاءات لعيّنة من الدول (المغاربية) على سبيل المثال - وهي الدول التي يكثر منها أعداد المهجرين - لرأينا أن ثروات البلاد تكفي أهلها وتزيد أضعافا كثيرة إذا استغلت استغلالا صحيحا وأنفقت بحقها... فقد ذكرت (وكالة بزنس مونتر إنترناشونال) في تقرير تحليل المخاطر الصادر في أيلول/سبتمبر عام 2010: "إن ليبيا صدرت 9.97 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام 2010، وقالت هذه الوكالة: بأن إنتاج الغاز الليبي سيصل إلى 21 مليار متر مكعب في عام 2014 و27 مليار متر مكعب بحلول عام 2019، وصرح وزير النفط الليبي (عبد الباري العروسي) بتاريخ 1 نيسان 2013 لوكالة أنباء (شينخوا): "إن دخل النفط للبلاد خلال عام 2012 هو 60 مليار دينار ليبي مضيفا بأن حصة النفط في البلاد حسب منظمة أوبك هي 5,1 مليون برميل من النفط الخام يوميا.. أما دولة المغرب فإنها تحتضن أكبر احتياطي في العالم من الفوسفات، وتحتل المرتبة الثالثة عالميا في الإنتاج بحوالي 29.5 مليون طن سنويا، وهو ما يدر على الدولة المغربية ما يقارب 14،49 مليار دولار... وتعتبر المغرب من أهم الدول في العالم المنتجة للثروة السمكية، تملك 17 ميناءً مخصصا لذلك، يمكنها إنتاج أكثر من 594 ألف طن من الأسماك، يعود عليها بـ247 مليون دولار من الأرباح سنويا، بالإضافة إلى أنها تقوم بكراء بعض مساحتها البحرية لبعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا... أما الجزائر فقد بلغت العائدات المالية النفطية السنة الماضية حوالي 60 مليار دولار، وفقا لتصريح وزير الطاقة الجزائري يوسف اليوسفي، ما يجعلها من الدول الأساسية في منظمة أوبك... بالإضافة إلى ذلك فالجزائر تملك أيضا ثروات مهمة من الغاز، حيث تحتل المرتبة الخامسة من حيث الإنتاج والمرتبة الثالثة في التصدير في العالم، بعائدات مالية تقدر بمليارات الدولارات!!...
هذه بعض الإحصاءات عن ثروات بلاد المسلمين الكثيرة والوفيرة والمتعددة... لكنها وللأسف الشديد تذهب في غير طرقها الشرعية التي أوجبها الله في الثروات والأموال العامة.. والسبب في ذلك هو الرعاية الظالمة التي تسود بلاد المسلمين، من قبل هذه الزمرة العميلة المتسلطة على رقابهم في طول البلاد وعرضها.. فهل يعقل أن تنفق دولة مثل قطر (200 مليار دولار) على مدينة رياضية لراحة الدول الكافرة، ورفاهية اللاعبين والسياح الكفار، وشعوب المسلمين لا تجد سداداً ولا قواماً ولا حتى كفافاً من عيش.. ويضطرون للهجرة إلى خارج أرضها بحثاً عن ذلك؟!، فقد أوردت (جريدة إيلاف) بتاريخ 11 تموز/يوليو 2013: "... رصدت قطر 200 مليار دولار (156 مليار يورو) لصرفها في السنوات العشر المقبلة على إنشاء البنى التحتية الخاصة باستضافة كأس العالم لكرة القدم عام 2022، حسب تقرير أعدته إدارة مؤسسة (ديلويت المتخصصة"(.!!.. وهل يعقل أن تنفق دول الخليج والسعودية المليارات على حرب إخوانهم في بلاد اليمن خدمة لمخططات أمريكا وأوروبا، ثم تنتهي هذه الحرب إلى مائدة المفاوضات حسبما رسمت لها أمريكا.. ولا تجد الشعوب عند هذه الدول أسباب العيش والرفاه؟!...فقد صرح (حمدي عبد العظيم)، الخبير الاقتصادي والرئيس الأسبق لأكاديمية السادات للعلوم الإدارية، لـ"مصر العربية" في 11 نيسان 2014، قال: "أنه في حال مشاركة مصر بقوات برية، فستتولى السعودية مسئولية الإنفاق على الجيوش البرية وصرف تعويضات للجنود، لافتا إلى أن تكلفة الحرب بلغت أكثر من (20 مليار دولار) منذ اندلاعها وحتى الآن، تكبدتها بالكامل المملكة السعودية. وأوضح الخبير الاقتصادي أن السعودية تسدد مصروفات مصر في "عاصفة الحزم"، عبر إرسال تحويلات مالية بكل التكاليف إلى وزارة المالية المصرية، مشيرا إلى أن مصر ليست قادرة على تحمل نفقات الحرب، ولكن المملكة لديها احتياطي نقدي ومعدات وأسلحة تكفيها لتحمل تلك الأعباء"!!.
كم من المليارات تنفق بلا فائدة على برامج شراء الأسلحة من الدول الكافرة، قد مضى زمن طويل على اختراعها، وأصبحت غير صالحة للاستعمال في بلادهم؟!... فقد أوردت صحيفة (نيويورك تايمز) بتاريخ 19 نيسان 2015 وبحسب (معهد ستكهولم) لأبحاث السلام الدولي قالت: "إن المملكة العربية السعودية أنفقت أكثر من 80 مليار دولار على الأسلحة العام الماضي، وهو أكثر حجم لإنفاقاتها من أي وقت مضى، وكذلك يتجاوز إنفاق فرنسا وبريطانيا!!، لتحتل الرياض رابع أكبر سوق للدفاع في العالم. ويشير المعهد الذي يتتبع الإنفاقات العسكرية في العالم، أن الإمارات أنفقت 23 مليار دولار، العام الماضي، أي أكثر من ثلاثة أضعاف إنفاقاتها عام 2006. وبالمثل فإن قطر، الساعية لتأكيد نفوذها في أنحاء الشرق الأوسط، وقعت العام الماضي صفقة مع البنتاجون بقيمة (11 مليار دولار) لشراء طائرات هليكوبتر هجومية من (طراز آباتشى)، وأنظمة دفاع جوي (باتريوت وجافلين). وتأمل الدولة الخليجية الصغيرة حاليا في عقد صفقة ضخمة لشراء مقاتلات F-15 لتحل بدلا من طائرات ميراج الفرنسية القديمة.
4- لو نظرنا في سيرة الخلفاء التقاة من سلف هذه الأمة لرأينا كيف رعوا أمتهم وشعوبهم بأحكام العدل الرباني، ولرأينا أن الأمة الإسلامية بحاجة إلى هذا العدل السامي، ويجب عليها أن تسعى جاهدة لتحقيقه في أرض الواقع... وأن حياتهم مقارنة مع ذاك العدل هي ظلم وتردٍّ في أسوأ الظروف، وأن حكامهم ليسوا من جنس دينهم ولا يطبقون شيئاً من أحكام هذا الدين السامي...فقد روى ابن كثير في البداية والنهاية قال: "أنه في عام الرماده - والجوع والفقر يحاصر المسلمين - كتب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب إلى عمرو ابن العاص في مصر "واغوثاه.. واغوثاه.. واغوثاه" فقال عمرو بن العاص: والله لأرسلن له قافلة من الأرزاق أولها في المدينة وآخرها عندي في مصر"!!
...وقد طبق عمر رضي الله عنه سياسة من التقشف، وبدأها بنفسه فقد أخرج ابن جرير الطبري في تاريخه قال: "أصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وحولها.. فآلى عمر ألا يذوق سمناً، ولا لبناً، ولا لحماً، وكان يقول رضي الله عنه: "كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم؟!".
5- إن هذه الحوادث وأمثالها من الظلم المستشري في أمة الإسلام ليضيء الطريق أمام أمة الإسلام أنه لا رفعة ولا عزة ولا استقامة لهم في ظل حكم هؤلاء الرويبضات من الحكام، ولن تنال هذه الأمة عزة ولا كرامة ولا رفعة إلا إذا خلعت عن رقابها المتسلطين الظالمين.. وأقامت نظام العدل الرباني في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة (ونحن نعيش في هذا الشهر المبارك شهر رجب الفرد ذكرى زوال هذه الخلافة من الأرض سنة 1342هـ؛ على أيدي المجرمين من الكفار وعملائهم من حكام المسلمين)... قال r: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه» رواه أحمد، وقال r: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله عز وجل أن يبعث عليكم عذابا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم» رواهالترمذيوحسنه، ومعنى أوشك أسرع.
فإذا خلعت الأمة عن رقابها هؤلاء المتسلطين، وطبقت شريعة ربها، فإنها ستعود خير أمة أخرجت للناس كما كانت، وستكون حياتها أفضل من حياة الغرب؛ كما كان سالف عهدها.. وذلك عندما كانت شوارع بلاد المسلمين في الأندلس مرصوفة بالبلاط، وكانت شوارع لندن تغوص في أوحالها الأقدام، وكانت بغداد تزخر بالعلوم وبالمستشفيات والأطباء وكانت لندن لا يوجد فيها طبيب واحد يعالج الناس.. وكانت جامعات الأندلس مهوى عقول وقلوب الطبقة الوسطى من الأشراف والملوك في أوروبا يأتون إليها لتلقي العلوم.. كما ذكرت المستشرقة الألمانية (د. زغريد هونكة) في كتابها الشهير (شمس العرب تسطع على الغرب)!!...
وسيصدق عند ذلك في هذه الأمة قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110]وقوله عليه الصلاة والسلام: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» رواه أحمد في مسنده
نسأله تعالى أن يكرم هذه الأمة الكريمة بالرفعة والسنا والتمكين في الأرض، وأن يرفع عنها سيف الظلم والقهر والقتل، لتعود خير أمة أخرجت للناس... آمين يا رب العالمين
بقلم: حمد طبيب – بيت المقدس
رأيك في الموضوع