إذا رجعنا إلى الخلف في التاريخ، إلى فترة ما قبل هدم دولة الخلافة سنجد أن طبيعة الإسلام الذي ورثناه وقتئذ هو في أغلبه الإسلام الروحي، الإسلام المتعلق أكثر بالعبادات والطاعات الفردية. صحيح أن الجهاد استمرّ زمن دولة الخلافة العثمانية، والفتوحات كانت لا تزال حاضرة، لكن المنظومة الداخلية لحياة المسلمين فقدت الشيء الكثير من الإبداع والاجتهاد وتكوين أبناء المسلمين ليكونوا في مستقبلهم قادة ورجال دولة، ضعفت العديد من نواحي انضباط المجتمع بأحكام الله كما يحب الله ويرضى، وذلك أن دول الغرب حينئذ بذلت الكثير من الجهد والوقت والأموال لضعضعة جسد دولة الخلافة وإنهاكه وبذر الخلافات بين المسلمين عموما، وبين عربهم وعجمهم، وإثارة قومياتهم، وإحياء عصبياتهم، ونعلم أنهم وظّفوا أدواتهم لتكريس مرض دولة الخلافة تمهيداً لقتلها وإزاحتها عن المشهد العالمي، سواء السياسي أو العسكري، ثم وصولاً إلى تقسيمها وتوزيعها، وفرز الأدوار لعملائها عليها.
تفكيك دولة بحجم دولة الخلافة هدفٌ عظيم عند الغرب، ولكن للتفكيك أخطارٌ لا يمكن أن يتدارك آثارها أحد أو دولة كائناً من كان، لأن ترك دولة الخلافة بعد تفكيكها دون ضبط هذا التفكيك، ودون الاعتناء ببقاء التفكيك وتركيزه وتكريسه ثمّ رعايته، أقول إن تركهم للدولة المقسمة دون رعاية منهم لهذه التقسيمات قد يحيي في نفوس المسلمين دينهم ومبدأهم، ثمّ يحيي إرادتهم الدفينة ليعودوا ويسودوا، وهذا ما لا يريده الكافر قطعاً.
لذا زرع الكيانات، ووظّف عليها الأدوات، ورسم لها نظم الحكم وأنظمة الحياة التي يجب أن تسير عليها وتنفذها دون حيدٍ ولا تردّد، فكانت التقسيمات تلك هي أول خطوة لتغييب الإسلام كنظام حياة عن هذه الأرض، وكانت الخطوة الثانية غرس كيانات شيطانية خبيثة في قلب بلاد المسلمين، لتكون سبباً مستمراً لتحفّز الناس ضد بعضهم بعضا، ودافعاً لتدخّل الكفار في أي وقت وأي مكان تحت ذرائع وحجج شتى، ومن هذه الكيانات كيان يهود في فلسطين، وكيان النصيريين في سوريا وما جلبوه على الناس من ويلات وإفسادٍ ومحاربة للدين وشرذمة للناس بعضهم عن بعض وزرعٍ للعداوة والبغضاء بينهم بشكل مستمر غير قابل للإصلاح أو الإنهاء طالما بقيت تلك الكيانات قائمة. فزادت الظلمات ظلمة، وضاعت الكثير من أحكام الله وغابت عن الفرد والمجتمع بعد أن غابت الدولة.
وأضاف الغرب وأعوانهم مفصلاً آخر من مفاصل سيطرتهم وتكريس تغييب المسلمين عن دينهم، وتمثّل بمن أطلقوا عليهم (علماء وشيوخاً ومفكرين وملهمين ومجددين...الخ )
وهؤلاء - دون مبالغة - كانوا ولا يزالون من أعتى أسلحة الكافر في بلاد المسلمين، وأقصد بهم، تلك الفئات التي تم توظيفها تحت ستار الدّين والعلم والفقه ليكونوا خدماً ليس للأنظمة فقط، بل خدماً لفكرة شرذمة المسلمين وتضييعهم وتكريس طاعتهم لأنظمتهم وحرمة الخروج عليها.
هذه الفئة غمست كثيراً من الناس في ظلمات الجهل بدين الله وأحكامه، لأنهم وبمعونة السلطان والإعلام ركّزوا في القلوب والعقول أنهم المرجع لشرع الله، فصدقهم كثير من الناس وساروا خلفهم، هؤلاء أمعنوا في تعبيد الناس للأنظمة، وأوغلوا في إغراقهم في ظلامها، وبعد أن كان للمسلمين دولة تقوم على أساس مبدئي فريد على وجه هذه الأرض، أصبحوا بلا مبدأ وبلا عقيدة واضحة، وبلا أحكام ينضبط الفرد والمجتمع بحسبها بما يرضي الله، وهم بهذا يخدمون أساس العمل وأساس الفكرة وهي: هدم الكفار لدولة الإسلام، ولا أقلّ من ذلك.
ووصلت بهم الحال أن تمادوا على الله جهاراً نهاراً بوقاحتهم في محاربة أحكامه وتزيين باطل الظالمين، فأصبح الناس يسمعون هذا يقول إنّ للحاكم أن يسكر ويزني علناً وقتاً من النهار ولا يجوز الإنكار عليه علناً! وآخر يعتبر أن حاكماً بانت جرائمه أنه يوحى إليه وأنه رسول مرسل من عند الله! وثالثٌ يرى بأمّ عينه ما أوصلنا إليه وليّ أمره من تضييع لكلّ أحكام الله، ومن موالاة للكافرين، ومن قتل وظلم وقهر ضد المسلمين ثم يصفه بأنه المحدَّثُ الملهم! وآخر يعتذر عن عقود من عمره زعم فيها أنه يدعو إلى الله على بصيرة، اعتذر عنها وأعلن ولاءه لسيّده وأن الإسلام المشوّه الذي يريده سيده هو الإسلام الحقّ!!
الخلاصة: أن غياب المبدئية عند المسلمين، أو تشويهها وتحريفها وتسميمها، يوصل في نهاية المطاف إلى الفراغ العقدي والفراغ السياسيّ من حياة المسلمين، اللهم إلا ما تعلّق ببعض شعائر الإسلام عند الأفراد ولا تتعداهم.
وهذا يعني أنه لا يوجد ما يثبتون عليه، لأنّ البناء فيه خلل عظيم، والتنشئة قامت على غير أساس الإسلام وأحكامه، وأنظمة الحياة مستوردة من عند الذين يحرصون على ضياعنا وتشرذمنا.
وللعودة إلى النور لا بد من العودة إلى المبدأ، المبدأ الصحيح، المبدأ الرباني الذي أوصلته إلينا الأنوار النبوية الشريفة، وترسيخ هذا المبدأ في العقول والقلوب، حتى ينعقد انعقاداً لا انفكاك له، ثم الثبات عليه بعد معرفة متطلبات حمله ونشره في أرض الله.
بهذا نخرج، ويخرج معنا الناس، من ظلمات الجهل والطاغوت الذي ترعاه كل أنظمة اليوم، إلى عدل ورحمة ونور النظام الرباني بدولته التي تحميه وترعاه وتنشره في الأرض نشر رعاية وهداية، وما ذلك على الله بعزيز.
يقول الله سبحانه: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سورة إبراهيم: 14]
رأيك في الموضوع