إن حزب العدالة والتنمية يتميز عن غيره من الأحزاب بقاعدته الانتخابية الثابتة المكونة من أنصار الحزب، وبخطابه الأخلاقي ومرجعيته الإسلامية التي وسعت قاعدته الشعبية، وبنظافة يده مقارنة بفساد الطبقة السياسية الحزبية مما جعله أهون الشرور عند الاختيار. وإدراكا من القصر لهذه الحقيقة فإنه يتخذه صمام أمان، لكن في الوقت نفسه فإن القصر حريص على رسم مجال تحرك الحزب وإفهامه أن المنع والعطاء إنما هو من القصر وأن الشرعية الانتخابية أو الشعبية لا وزن لها، وللقيام بذلك سار القصر في ثلاث نواحي:
1- ضرب الخطاب الأخلاقي الإسلامي للحزب: وقد بدا ذلك في اعتقال الشيخ عمر بن حماد والسيدة فاطمة النجار القياديين في حركة التوحيد والإصلاح, التي تعتبر الجناح الدعوي والرافد لحزب العدالة والتنمية.
2- ضرب الشرعية الانتخابية للحزب: وقد ظهر ذلك جليا فيما سمي "بالبلوكاج الحكومي" بعد انتخابات 7 تشرين الأول/أكتوبر. فمباشرة بعد إعلان نتائج الانتخابات عين الملك السيد عبد الإله بنكيران رئيسا للحكومة وكلفه بتشكيل الأغلبية الحكومية. وإدراكا من بنكيران وحزبه أن الحكومة يجب أن تنال رضا القصر فقد حرص بن كيران في مشاوراته على ضم حزب الأحرار بقيادة أخنوش للتحالف الحكومي، لكن أخنوش وبعد جلوسه للمفاوضة مع بن كيران اشترط بداية استبعاد حزب الاستقلال من التشكيلة الحكومية الأمر الذي رفضه بن كيران بداية ثم تراجع عنه بعد تصريحات الأمين العام لحزب الاستقلال بخصوص تبعية موريتانيا تاريخيا للمغرب مما تسبب في أزمة بين موريتانيا والمغرب. لكن وعلى غير ما كان منتظرا وبعد تنازل حزب العدالة والتنمية وإعلان موافقته تشكيل الحكومة من الأغلبية السابقة الأحرار والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية مع السماح باستوزار أشخاص من الاتحاد الدستوري باسم حزب الأحرار، فاجأ أخنوش الجميع ببيان رباعي مع حزب الاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي يشترط دخول الأحزاب الأربعة للحكومة. فكان رد بن كيران ببيان "انتهى الكلام" ورفض دخول الاتحاد للحكومة. وقد كان واضحا أن أخنوش يبتز رئيس الحكومة المعين وأن أخنوش يتصرف كرئيس الحكومة فيعين من يدخل للحكومة ومن لا يدخل. وقد كانت حجة أخنوش ومن حوله من الأحزاب أن الحكومة يجب أن لا تخضع لحسابات عددية وإنما ينبغي أن تكون حكومة قوية ومنسجمة ببرنامج واضح تخدم المصالح العليا للوطن. وهو أي أخنوش في هذا يحيل إلى خطاب الملك من داكار بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء الذي جاء فيه: "إن المغرب يحتاج لحكومة جادة ومسؤولة. غير أن الحكومة المقبلة، لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية".
وهكذا وقف قطار مفاوضات تشكيل الحكومة أمام الباب المسدود.
وإن من نافلة القول أن هذه الاشتراطات من أخنوش هي بضوء أخضر من القصر وأن التعثر الحكومي متحكم فيه وبرضا القصر، فلو أراد القصر تشكيل الحكومة بالسرعة القصوى لفعل ولن يجد معترضا أو ممانعا، فبإشارة منه اجتمعت كل الأحزاب رغم خلافاتها وسارعت بانتخاب لجان الغرفة الأولى للمصادقة على معاهدة تأسيس الاتحاد الإفريقي تمهيدا لعودة المغرب إلى المنظمة الإفريقية، وكل هذا رغم عدم وجود أغلبية حكومية، وتم انتخاب الحبيب المالكي من الاتحاد الاشتراكي رئيسا للغرفة الأولى دون اعتراض حزب العدالة والتنمية رغم اعتراضه القوي على دخوله الحكومة.
3- إنهاء خطاب المظلومية: منذ أن تولى بن كيران الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية ثم رئاسة الحكومة عرف الخطاب السياسي في المغرب ألفاظ "التماسيح والعفاريت" و"التحكم" وقد كان وراء ذلك شخص بن كيران حيث كان يبرر تنازلات حزبه وفشل حكومته ومحدودية إصلاحاته وعدم محاربته للفساد بوجود قوى خفية لم يسمها يوما باسمها تحارب الحزب وتسعى للنيل منه وقد نعتها أحيانا بالتماسيح والعفاريت وأحيانا أخرى بالتحكم، وهو يعرض في كل ذلك بالقصر (المخزن) وبمستشاري الملك وأدواتهم من السياسيين والإعلاميين وغيرهم.
إن تعيين بن كيران لتشكيل الحكومة ثم إعفاءه، كل ذلك منضبط بالشعاب الثلاث المذكورة أعلاه وبحاجة القصر لحزب العدالة والتنمية في المرحلة الحالية، فقد قال السيد سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الجديد المعين في اجتماع المجلس الوطني الاستثنائي إثر إعفاء بن كيران، إن الملك كلفه بأن يبلغ أعضاء حزب العدالة والتنمية سلاما حارا، وأنه حريص على الاستمرار في العمل مع الحزب، وأنه يريد أن يتم الطريق معكم، لأنكم حزب وطني وعنده أهمية.
إن حزب العدالة والتنمية هو الذي سيشكل الحكومة وفق ما يريد القصر وسنرى أن الأحزاب المتشاكسة طيلة خمسة أشهر ستتوافق لأجل المصلحة العليا للوطن، والبداية كانت مع بيان المجلس الوطني للعدالة والتنمية الذي جاء فيه في وصف تدبير بن كيران للمفاوضات: "كل ذلك في نطاق من الإحساس العالي بالمسؤولية، والمرونة اللازمة، والتنازل من أجل المصلحة الوطنية العليا من أجل تشكيل حكومة قوية ومنسجمة تكون في مستوى تطلعات جلالة الملك وسعي لاحترام إرادة الناخبين" ثم ختم البيان بذكر رؤيته لمنهجية تدبير المفاوضات لاحقا: "ويؤكد المجلس الوطني أن الحزب سيظل وفيا دوما لاعتبار المصلحة الوطنية العليا وحريصا على تعزيز الاختيار الديمقراطي وتغليب منطق التوافق في نطاق لا يمس بثوابت البلاد ومقوماتها الأساسية".
إن الذي تغير هو شخص بن كيران ليحل محله سعد الدين العثماني، وهذا إيذان بانتهاء مرحلة التلاسن الحزبي ومرحلة "التماسيح والعفاريت" و"التحكم"، هفوات لسان بن كيران عجلت بإعفائه فقد دعا الملك لاحترام الخيار الديمقراطي وفي زلة لسان تراجع عنها قال "لا يمكن أن يفرج الملك كروب شعوب إفريقيا وشعب المغرب في المقابل يهان".
فالقصر من خلال إعفاء بن كيران يرسل الرسائل التالية:
أ- أنه هو الحكم وهو الحامي للخيار الديمقراطي ولمصالح الوطن العليا،
ب- وأن تأويل الدستور من صلاحية المؤسسة الملكية فقد اختار تعيين شخص ثان من الحزب الأول من عدة خيارات أخرى،
ت- وأن الشرعية الانتخابية نسبية،
ث- وأن مرحلة اتهام القصر ولو تعريضا بالتحكم انتهت.
وسيكون القصر في هذه المرحلة أمام حزب قبل أن يكون مصيره بيد الملك، وسيقوم حزب العدالة والتنمية بما قام به في ولايته الأولى وأكثر فقط بدون ثرثرة.
رأيك في الموضوع