عندما تمكنت عصابات يهودية من هزيمة الجيوش العربية، ومن طرد أهل فلسطين من أراضيهم، كانت النكبة، وصار مفتاح البيت المهجور رمزا لها، حيث ظنّ أهل تلك البيوت أن الجيوش العربية ستعيد الكرة من قريب، وتعيدهم إلى بيوتهم... طال الأمل، ورحل جُلّ أصحاب تلك البيوت عن الحياة، ومرت العقود، وتعاظمت مؤامرات الأنظمة العربية وجامعتها، واستمر إحياء ذكرى النكبة لطميةً إعلامية بحتة، يغيب فيها التذكير بأسبابها ومفاعيلها الحقيقية، ومن ثم يُغيّب فيها عمدا طرح علاج ما تمخض عن النكبة.
بداية، لا شك أن إحياء الذكريات الأليمية التي تمر بالأمم يحمل معانيَ سياسية، أهمها أن يكون دافعا للتغيير وإزالة ما نتج عنها، وهذا يتطلب بالطبع أن تتضمن فعاليات إحياء الذكرى تبيان أسبابها وكيفية علاجها. ومن أجل أن يتم ذلك، لا بد أن يرتبط إحياء ذكريات الأمة بمفاهيم سياسية تؤدي لذلك التغيير والتحرير، كما يحصل في إحياء ذكرى هدم الخلافة.
عندها يكون إحياء الذكرى عملية سياسية وتعبوية وإعلامية في خدمة القضية، وأسلوبا جماهيريا لحشد الناس من أجل التغيير. فهل تحضر هذه الأبعاد في إحياء ذكرى النكبة؟ وهل يُستحضر طريق التحرير؟ وهل يمكن لإعلام الأنظمة العربية أن يُبرز الأسباب والعلاج؟
عودنا الإعلام - في هذه المناسبة - أن يزور بيوت المهجّرين (فيما يسمى الشتات)، وأن يُظهر آلامهم وآمالهم، وأن يذكّر بحق العودة، كحق مشروع، بينما يتغافل تماما عن المفهوم الحقيقي للعودة، ويتعامى عمّا طبخته الاتفاقيات، وما بلورته الوعود السياسية من تفريغ ذلك المفهوم من أي مضمون حقيقي يخدم هؤلاء المهجرين.
فالعودة بمفهوم الأمة الإسلامية هي عودة الأرض لأصحابها بالتحرير والتطهير من الاحتلال اليهودي، لا عودة المهجرين إلى سلطة تحت الاحتلال تظل أجيرة وأسيرة عند ذلك الاحتلال. ثم إن مفهوم العودة الأصيل يتناقض مع التحريف القانوني للعودة حسب مبدأ التعويض المالي، مما يتغافل عن طبيعة أرض فلسطين الخراجية، بل يتوافق مع نهج الاسترزاق الذي يمارسه قادة المشروع الوطني الاستثماري، الذين يتكسّبون من سياسة التنازلات، ويريدون للمهجرين أن يتكسبوا من التفريط.
ومفهوم العودة يتناقض مع أطروحات "المشروع الوطني"، الذي احتشدت عليه السلطة الفلسطينية، وتعمل على حشد جُل الفصائل الفلسطينية عليه، إذ هو قائم على حل الدولتين، الذي يقضي بأن ما نتج عن النكبة لا عودة عنه، (عملية غير قابلة للانعكاس)، ولذلك تخلّى رئيسهم عن حقه بالعودة إلى صفد، في رسالة رمزية للأعداء والمهجرين على حد سواء، فأي معنى يمكن أن يكون قد تبقى للعودة عندهم؟! هل ثمة من مجال في حل الدولتين لعودة الأرض أو حتى عودة الناس لتلك الأرض التي صار المشروع الوطني يصنفها "أرض إسرائيل"؟
من هنا كان تباكي قادة المشروع الوطني في ذكرى النكبة هو ذرف لدموع التماسيح، لا شحذا للهمم على طريق التخلص من آثار النكبة، وخصوصا أنهم يحيون ذكرى النكبة مع إصرار على تجاهل أسبابها، فكيف لمن لا يشخص الأسباب أن يفهم العلاج أو أن يتحرك لتحصيله؟!
إن جذور النكبة غائرة في التاريخ الاستعماري للقوى الغربية، وفي صراعها مع آخر دولة إسلامية: إذ إن النكبة تمخضت عن رؤية استعمارية تزامنت مع القضاء على الخلافة العثمانية، تلك الخلافة التي رفض سلطانها عبد الحميد - رحمه الله - إغراءات سماسرة اليهود، وظلت كلماته خالدة، تعبر عن علو قيمة أرض الإسراء والمعراج عند الحاكم المسلم، في مقابل التفريط بها من قبل كل الحكام الذين أتوا بعد القضاء على الخلافة، لا فرق في ذلك بين حكم علماني وحكم متأسلم.
فالنكبة هي نتيجة لعقلية الحروب الصليبية التي سيطرت على ممالك أوروبا قديما، ثم على الدول الأوروبية الحديثة، وهي تخط معاهدة "سايكس بيكو" عام 1916، التي وقعتها بريطانيا مع فرنسا باطلاع روسيا، وقد قررت فيها بداية إيجاد كيان دولي في فلسطين، ضمن مشروع تمزيق الخلافة، ولضمان عدم عودتها، بوجود ذلك الفاصل في خاصرة الأمة. ثم أصدرت بريطانيا "وعد بلفور" عام 1917 لطمأنة اليهود، بعدما أفشت روسيا سر تلك المعاهدة بعد الثورة. ثم أقرته فرنسا وإيطاليا عام 1918، وتبعتهم أمريكا عام 1919. لذلك فإن النكبة بإقامة كيان يهود فوق أرض فلسطين هي نتيجة لذلك الصراع الاستعماري ضد الخلافة، المشحون بالعقلية الصليبية.
ومن أجل تنفيذ ذلك الوعد الاستعماري، احتلت بريطانيا فلسطين في الحرب العالمية الأولى عام 1918، كي تسهّل لليهود هجرتهم إلى فلسطين، وتوفر لهم الدعم اللوجستي لإقامة كيانهم. وعندما أدرك أهل فلسطين رعاية بريطانيا للهجرة اليهودية، انتفضوا ضدها. ثم كانت ما تسمى "الثورة العربية الكبرى"، الخنجر المسموم الذي غرسته بريطانيا في صدر الأمة، فقضت على الخلافة واحتلت فلسطين.
إذن، فإن قضية الخلافة وقضية فلسطين توأمان، أسقطت الخلافة فضاعت فلسطين، وتعود الخلافة فتحرر إرادة الجيوش العسكرية من هيمنة الحكام المستبدين فتحرر فلسطين، وتزول آثار النكبة. ولذلك ظلت القضية في وعي الأمة قضية عسكرية تتعلق بالجهاد، لا قضية سياسية تُحل بالدبلوماسية والمفاوضات كما تطرح جُل الفصائل في إحياء ذكرى النكبة.
تلك هي المعادلة البسيطة التي تجمع الأسباب مع الحلول، وهي معادلة مغيبة عن الإعلام وعن الفصائل الفلسطينية في فعاليات إحياء ذكرى النكبة، ليصبح - بكل أسف - إحياء ذكرى النكبة، جزءا من النكبة ذاتها. ويصبح تغييب فعاليات إحياء ذكرى هدم الخلافة جزءا من استمرار النكبة.
رأيك في الموضوع