رغم أن بريطانيا هي التي أوجدت الكيان الأردني وسلخته عن محيطه العربي الإسلامي ونصبت عليه العائلة الهاشمية التي جلبتها من الحجاز في مهمة وظيفية أساسية وهي حماية كيان يهود، لتحقيق المصالح الاستعمارية لبريطانيا، حيث كان الأردن مطبخ السياسات والمؤامرات الإنجليزية في صراعها مع قوى الاستعمار الجديد، أي الولايات المتحدة الأمريكية التي أوكلت لها مهمات المساعدات العسكرية والاقتصادية للأردن منذ عام 1957، مع بقاء النظام مخلصا في عمالته وتبعيته لبريطانيا منفذا لسياساتها في المنطقة، بمكر ودهاء وانحناء أمام الهيمنة والسيطرة الأمريكية التي تعاظمت، حتى بات النظام في الأردن وسط محيط من البلاد العربية التي يحكمها عملاء أمريكا الذين يتربصون به، ولم يبق له إلا كيان يهود في حمايته المتبادلة والتعاون المخلص عبر اتفاقيات الإذعان والتمكين السياسية والاقتصادية والأمنية التي يتقن الأردن تسويقها كمنتج مخابراتي استخباراتي، تم تطويره في خدمة كل أعداء الأمة في سياق الحرب على الإسلام (الإرهاب).
أما بالنسبة لعلاقة الملك حسين ومن بعده الملك عبد الله الثاني فقد كانت الولايات المتحدة تعاملهما بدونية وتتربص بهما وهي تعلم أن ولاءهما لبريطانيا، ولكنهما أجادا التعامل معها رغم ضعف اليد، فكانا يهتمان بمهارات تكوين العلاقات، ومن خلال زياراتهما المتكررة الطويلة كانا يتعاملان مع البيت الأبيض، ومجلس الوزراء، والكونجرس ووفود الكونغرس الزائرة بشكل متكرر ومرحب بها في عمان، وأجاد الملك عبد الله في هذا المجال كونه إنجليزي التفكير والتكوين واللغة وما زال يتكلم العربية بلكنة إنجليزية، وقد أشار المتحدث الإقليمي باسم الوزارة سام وربرج في مقابلة مع وكالة الأنباء الأردنية بعد فتح مكتب للناتو في عمان مؤخرا إلى أن بلاده "تعتبر المملكة من أهم الشركاء للولايات المتحدة في جانب الاستقرار والأمن في المنطقة". ونوه إلى أن الملك عبد الله الثاني ليس صديقاً للرئيس الأمريكي جو بايدن فحسب، بل لديه أيضاً أصدقاء في كل سلطات الولايات المتحدة سواء على صعيد الحكومة المركزية أو على صعيد الكونغرس، مبيناً أن "هذا ليس شيئا يأتي بسهولة لأي قائد في العالم أن يكون لديه علاقة ومعرفة مع كل السلطات في أمريكا".
ولا يعني ذلك أن أمريكا لا تتربص بعميل الإنجليز في الأردن رغم تفانيه في خدمتها وخدمة مصالحها المتعلقة بالمنطقة خصوصا بعد طوفان الأقصى، فكانت آخر محاولة أمريكية ما تسمى بقضية الفتنة التي اتهم فيها الأمير حمزة الذي ظهرت موالاته لأمريكا، بالعمل على الانقلاب على أخيه الملك عبد الله، وفوت الإنجليز الفرصة على أمريكا بإغرائها باتفاقية الدفاع المشترك، حيث يرى الملك في هذه الاتفاقية وسيلة لتأمين نظامه ومستقبل ولي العهد، تجعل من الأردن قواعد عسكرية ومنصات انطلاق عسكري وتعاون أمني سيبراني في حرب أمريكا لتحقيق مصالحها وكان آخرها صد الصواريخ والمسيرات الإيرانية المتجهة لضرب كيان يهود، بتعاون أردني أمريكي بريطاني، رغم سخط الناس على هذا الإذعان للنظام الأردني.
وفي خضم تلاحق الأحداث وتجاوز حرب الإبادة اليهودية على أهل غزة العشرة شهور، وتسارع تأثير الحرب في غزة على الأردن بشكل كبيرٍ وغير منضبط أحياناً، وسلسلة عمليات الاغتيال التي يمارسها كيان يهود الأرعن وعلى رأسها اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في طهران، وتوعد إيران برد "عنيف" لم يحدث حتى اليوم، شعر النظام في الأردن أنه في قلب معادلة التفاعلات الجيوسياسية بالشرق الأوسط، وأنه عرضة للمخاطر السياسية والأمنية وخطر توسع الحرب إلى حرب إقليمية، فأعاد قضية الأمن الإقليمي إلى رأس أجندة التحركات الدبلوماسية الخارجية، في محاولةً لتحقيق التوازن بين تأييد حقوق الفلسطينيين واستيعاب الشارع المتأجج والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وكيان يهود، وتهديد وجوده على رأس الحكم، فعقد أول اجتماع لما يسمى بمجلس الأمن القومي.
فقد صرح الملك عبد الله الثاني ووزير خارجيته أن الأردن لن يكون ساحة حرب لأحد، والمعني بذلك هي إيران تحديدا، فقد سبق للنظام صد صواريخ ومسيرات إيران في هجومها على كيان يهود بعد ضرب قنصليتها في دمشق، وقد شاركت أمريكا وبريطانيا بل وكيان يهود بالصد فوق المجال الجوي الأردني، وكانت المليشيات العراقية قد شنت هجوما بمسيرة إيرانية في وقت سابق استهدفت برج 22 وقتلت 3 أمريكيين داخل الأردن. فقصة السماح بانتهاك المجال الجوي الأردني تعتمد على خدمة أجندات يهود وأمريكا، فقد مرت طائرات كيان يهود في المجال الجوي الأردني عندما دمرت المفاعل النووي العراقي، وعندما كان يضرب جنوب سوريا.
ويأتي قلق النظام من اتجاه إيران للضغط على الساحة الأردنية ارتباطاً بمستهدفات تتصل بسياستها الإقليمية، فإيران وإن كانت تدور في فلك أمريكا في سياستها الخارجية، لكنها في علاقة تنافس مع كيان يهود، في خدمة المصالح الأمريكية، التي تصل لحالة العداء وتربص ومناوشات لا ترقى لحرب واسعة، علاوة على الاغتيالات التي وقعت على أراضيها، فيهمها ضرب العلاقة الأردنية الوثيقة مع كيان يهود، الأمر الذي أدى إلى زيارة استكشافية ورسائل نقلها وزير الخارجية الأردني في زيارته لطهران، لا تخلو من استطلاع نوايا إيران تجاه الرد على اغتيال هنية، وهي التي لا زالت تتلكأ في الرد على كيان يهود بانتظار أن تحقق مصلحة أمريكية في وقف الحرب وفي الوقت نفسه غير معنية بفتح حرب واسعة مع كيان يهود.
وقد ترأس الملك عبد الله أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لمناقشة التطورات الإقليمية الراهنة والتصعيد في المنطقة، وهو ما يشير إلى احتمالات التصعيد العسكري ووضع تصور استراتيجي مسبق لتخوفات النظام استعدادا لحرب وشيكة ومحتملة في المنطقة، حيث إنه في وضع غامض، لاحتمالات تهديد أمنه الوجودي، وقد تم تشكيل هذا المجلس لتوسيع صلاحيات الملك، مظنة تحصينه من حكومات مستقبلية منتخبة، بإبطال أي إجراء لمثل هذه الحكومات يراه النظام خطراً على وجوده في ظل الهيمنة الأمريكية، مع قرب الانتخابات على الأساس الحزبي.
غير أن التطورات الأخيرة وخصوصا ما أحدثته الحرب على غزة وصمود أهلها ومقاومة مجاهديها وهي تحارب كيان يهود وأمريكا وأوروبا من ورائها، وتخاذل حكام المسلمين عن نصرتها، أوجد الرعب في كيان يهود وشعوره بتهديد وجودي، ما دفع كاتس وزير خارجية كيان يهود إلى التصريح بأن "وحدات الحرس الثوري الإيراني تتعاون مع حركة حماس في لبنان لتهريب الأسلحة والأموال إلى الأردن"، وطالب بـ"الإسراع في بناء الحاجز الشرقي على طول الحدود مع الأردن لمنع تهريب الأسلحة من الأردن إلى (إسرائيل)". وهو ما يدل على تهالك ثقة اليهود في استطاعة النظام في الأردن من ممارسة الدور الوظيفي الذي مارسه منذ وجوده في حماية ودعم كيانهم على الحدود الشرقية، وبات الوضع الجيوسياسي يهدد الكيانين، فيما تسعى أمريكا لتصفية القضية الفلسطينية بحل الدولتين رغم استحالته، وما تحيكه من فرض أجندتها على كيان يهود والنظام الأردني، رغم توسع دوره الوظيفي ليشمل المحافظة والإذعان في خدمة المصالح الأمريكية في المنطقة مقابل بقائه غير المضمون في الحكم.
لقد كشفت الحرب على غزة يقينا وإلى غير رجعة خيانة حكام المسلمين، وضعف كيان يهود ومن ورائه شدة العداء الأمريكي للمسلمين وتآمرهم للحيلولة دون عودة دولتهم الإسلامية التي ستقود جيوش المسلمين في حربها لتحرير فلسطين وطرد المستعمرين الكفار من بلادنا.
بقلم: د. خالد الحكيم
رأيك في الموضوع